لم يعد لدى العالم حديث سوى فيروس كورونا وما يحدثه فى العالم من تدمير وأوبئة لذا من اللازم إلقاء الضوء على الفيروسات كما رصدتها الكتب ومن ذلك كتاب "الفيروسات.. مقدمة قصيرة جدا" لـ دوروثى إتش كروفورد، ترجمة أسامة فاروق حسن مراجعة هانى فتحى سليمان، وصدرت ترجمته عن مؤسسة هنداوى.
والكتاب مقدمة عن الفيروسات وُضعت لعموم القراء، يتناول الفصلان الأول والثانى تركيب الفيروسات وأنواعها وأماكن معيشتها وأسلوب حياتها والآثار التى تحدثها، بدءًا من آثارها فى الفرد المصاب بالعدوى وصولًا إلى آثارها فى الكوكب بأسره.
يستعرض الكتاب بعد ذلك المعركة المتواصلة بين الفيروسات وجهاز المناعة لدى الفرد المصاب بالعدوى، يلى ذلك مجموعة من الفصول التى تتناول العدوى بفئات معينة من الفيروسات، سواء أكانت حديثة الظهور، أم وبائية، أم جائحة، أم الكامنة داخل الجسم طيلة العمر، والتى قد يتسبب بعضها فى إحداث أورام. وتبحث الفصول التالية بعد ذلك فى مسألة كيف تطورت معرفتنا بالفيروسات عبر العصور، وكيف زادت الثورة الجزيئية الحديثة من قدرتنا على عزل فيروسات جديدة وتشخيص حالات العدوى الفيروسية وعلاجها. ويأتى الفصل الأخير من الكتاب كى يلقى نظرة تاريخية على النمط المتغير لحالات العدوى الفيروسية عبر العصور المختلفة، ويتكهن بالكيفية التى ربما يتفاعل من خلالها البشر مع الفيروسات فى المستقبل.
تجنبت المؤلفة قدر استطاعتها استعمال المصطلحات المتخصصة والفنية فى النص، ولكن كلما كان ذكر تلك المصطلحات أمرًا لا مفر منه، شرحت معناها فى مسرد للمصطلحات. ويشمل هذا أيضًا أسباب تسمية الفيروسات بأسمائها الواردة. علاوة على ذلك، وردت فى نهاية الكتاب قائمة بالمراجع والكتب المقترح مطالعتها لمزيد من المعرفة.
تطورت الميكروبات البدائية على كوكب الأرض منذ ما يقرب من ثلاثة مليارات عام، غير أن الإنسان لم يتمكن من عزلها إلا فى أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يكتب هيلاير بيلوك قصيدة "الميكروب" بما يقرب من عشرين عامًا.
ومع أن تلك القصيدة كتبت كنوع من الترفيه عن الناس، فإنها تعكس نزعة الشك التى سادت تلك الأزمنة. ولا بد أن الأمر استدعى وثبة إيمانية هائلة من الناس حتى يتقبلوا فكرة وجود كائنات حية دقيقة الحجم وكونها هى المسئولة عن الأمراض التى كانت حتى ذلك الحين تعزى إلى أسباب متنوعة مثل إرادة الآلهة، أو اصطفاف الكواكب على خط واحد، أو الأبخرة الوبائية المتصاعدة من المستنقعات والمواد العضوية المتحللة. وبالطبع، لم يتكون هذا الإدراك الجديد بين عشية وضحاها، لكن مع التعرف على المزيد والمزيد من أنواع البكتيريا المختلفة، ترسخت «النظرية الجرثومية»، ومع بدايات القرن العشرين صار مقبولًا على نطاق واسع حتى فى الدوائر غير العلمية أن الميكروبات بإمكانها أن تسبب الأمراض.
كانت التطورات التقنية التى تحققت فى صناعة الميكروسكوبيات على يد صانع العدسات الهولندى أنتونى فان ليوفنهويك (١٦٣٢–١٧٢٣) فى القرن السادس عشر من الأهمية بمكان لهذه الوثبة. كان هو أول من شاهد الميكروبات، غير أن الأمر مع ذلك احتاج إلى الانتظار حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما أجرى كل من لوى باستير (١٨٢٢–١٨٩٥) فى باريس وروبرت كوخ (١٨٤٣–١٩١٠) فى برلين أبحاثهما، التى شكلت فتوحات علمية كبرى وأكدت أن «الجراثيم» هى سبب الأمراض المعدية؛ ما أكسبهما عن جدارة لقب «الأبوين المؤسسين لعلم الميكروبيولوجيا (علم الأحياء الدقيقة)». كان باستير صاحب إسهام رئيسى فى محو الاعتقاد الذى كان سائدًا فى أذهان العامة وهو حدوث «تولد تلقائي»؛ بمعنى، تولُّد حياة من مادة غير عضوية. فى ذلك الوقت، كان نمو الفطريات فوق أسطح الطعام والشراب المختزن يمثل مشكلة ذات أهمية خاصة. وقد شرح باستير أن بالإمكان منع هذا الأمر فى حالة المرق بأن يُغلى أولًا، ثم يوضع بعد ذلك فى غرفة مزودة بمرشحات تحجز خلفها أى مادة مكونة من جسيمات آتية مع الهواء. وأظهر هذا وجود «جراثيم» مجهرية الحجم يحملها الهواء. وعام ١٨٧٦، عزل كوخ أول فصيل بكتيري، «الجمرة العصوية»، وسرعان ما ابتكر وسائل لزراعة الميكروبات فى المختبر.
وبدأت الأمراض التى كانت تصنع الرعب، كالجمرة الخبيثة والدرن والكوليرا والدفتيريا، تكشف عن أسرارها واحدًا تلو الآخر عندما حُددت الميكروبات المسببة لها واكتُشفت صفاتها. وصار من الواضح أن للبكتيريا تركيبًا مماثلًا لتركيب خلايا الثدييات، فمعظمها له جدار خلوى يحيط بسيتوبلازم يحوى بداخله جزيئًا واحدًا دائرى الشكل ملتف حول نفسه من الحمض النووي. تعيش الغالبية العظمى من البكتيريا حرة، ما معناه أن فى استطاعتها تصنيع جميع البروتينات التى تحتاجها بنفسها، وأن تمارس الأيض وأن تنقسم دون مساعدة من كائنات أخرى.
وبالرغم من هذا النجاح فى عزل البكتيريا المسببة للأمراض، ظلت فئة من الأمراض المعدية تقاوم فى عناد كافة محاولات عزل الكائنات المسببة لها، وكان من بينها حالات عدوى شائعة ومميتة مثل الجدري، والحصبة، وحمى النكاف، والحصبة الألمانية، والأنفلونزا. كان من الواضح أن تلك الميكروبات بالغة الصغر؛ إذ كانت تمر من خلال المرشحات التى كانت تحتجز البكتيريا، ولهذا أطلق عليها اسم «العوامل المارة من المرشحات». فى ذلك الوقت، كان معظم العلماء يظنون أنها ليست سوى نوع من البكتيريا دقيقة الحجم.
فى عام ١٨٧٦ شرع أدولف ماير (١٨٤٣–١٩٤٢)، مدير محطة التجارب الزراعية فى فاخنيجن بهولندا، فى إجراء أبحاثه حول مرض جديد يصيب نباتات التبغ بدأ يدمر صناعة التبغ الهولندى التى كانت تجلب للبلاد ثروة طائلة. أطلق ماير عليه اسم «مرض موزايك التبغ» بسبب الشكل المبرقش الذى يرسمه على أسطح أوراق النباتات المصابة، وكان كذلك أول من أوضح أن المرض معدٍ عندما نقل العدوى إلى نبات سليم بأن حك أوراقه بالعصارة المستخلصة من نبات مصاب. فاستنتج بذلك أن سبب المرض فصيل صغير الحجم للغاية من البكتيريا أو سم، لكنه لم يواصل أبحاثه لما هو أبعد من ذلك.
وبعدها، أجرى عالم الأحياء دميترى إيفانوفسكى (١٨٦٤–١٩٢٠) أبحاثه هو أيضًا على مرض موزايك التبغ بجامعة سان بطرسبرج فى روسيا. وأطلق على المرض اسم «النيران الجامحة»، وفى عام ١٨٩٢ أوضح هذا العالم أن العامل المسبب له يمر من خلال مرشحات تحتجز البكتيريا. وافترض، مثله مثل ماير، أن المرض يحدث بسبب سم بكتيرى تنتجه واحدة من فصائل البكتيريا.
ثم فى عام 1898، تابع «مارتينوس بيجيرينك» (١٨٥١–١٩٣١)، وهو مدرس علم الميكروبيولوجيا بكلية الزراعة فى فاخنيجن، خطى تجارب ماير. وكرر هذا العالم، دون أن يعلم شيئًا عن أبحاث «إيفانوفسكي»، إجراء تجارب المرشحات التى أوضحت وجود عامل بالغ الصغر يستطيع المرور من فتحات المرشح، غير أنه بيَّن بعد ذلك أن هذا العامل ينمو داخل الخلايا المنقسمة، وأنه يستعيد قوته الكاملة فى كل مرة يصيب فيها النبات بالعدوى. فاستنتج بذلك أنه لا بد أن يكون ميكروبًا حيًّا، وكان أول من صاغ الاسم «فيروس»، المشتق من كلمة لاتينية تعنى سم، أو سم الحيوان، أو السائل الدبق.
مع بدايات القرن العشرين عُرِّفت الفيروسات بأنها فئة من الميكروبات تتصف بكونها مسببة للعدوى، وتمر من فتحات المرشحات، وتحتاج إلى خلايا حية حتى تنتشر، غير أن طبيعة تركيبها ظلت لغزًا غامضًا. وفى ثلاثينيات القرن العشرين، تم الحصول على فيروس موزايك التبغ فى هيئته المتبلرة، ما أوحى بأن الفيروسات تتكون من البروتينات فقط، غير أنه سرعان ما اكتشف بعدها وجود مكون من الحمض النووى ظهر أنه ضرورى لخاصية الإصابة بالعدوى. غير أن الفيروسات لم تُر رأى العين لأول مرة إلا بعد اختراع المجهر الإلكترونى عام ١٩٣٩، وتم حينئذ التعرف بدقة على تركيبها، فتبين أنها فئة فريدة فى نوعها من الميكروبات.