تعد رواية "أنشودة الجلاد" واحدة من أبرز الروايات التي صدرت فى القرن العشرين، وهي أشبه بتحقيق صحفي في نحو ألف صفحة أرّخ من خلالها نورمان ميلر، لحياة وموت المجرم الأمريكي جيلمور الذي أعدم رمياً بالرصاص عام 1977، بعد أن خُيّر بين السجن مؤبداً والإعدام، فاختار الإعدام لأن "وطأته أخف من السجن المؤبد" وفق قول ميلر، والحقيقة أن ميلر إنما انطلق في كتابه هذا من ذلك الاختيار، ليضع نصّاً طويلاً مدهشاً، يصعب تصنيفه أدبياً أو فكرياً.
كتب عنهاباحث التاريخ الثقافي المترجمإبراهيم العريس يقول: من الواضح أن جيلمور إنما دخل سجل الخلود، بفضل هذا الكتاب، الذي يُعتبر من أقوى ما كتب نورمان ميلر، فجيلمور في الأصل ليس أكثر من مجرم عادي اقترف جريمتين أول العام 1977، ثم حوكم وحكم عليه بالإعدام وإذ طُلب منه أن يستأنف الحكم على اعتبار أنه يمكن أن يخفَّف إلى سجن مؤبد، رفض مفضلاً الموت. وإذ ظل هذا التفضيل غامضاً، أتى كتاب نورمان ليوضح الأمر: قال لنا إن جيلمور رُبّي يتيماً، ضمن بيئة طائفة المورمون، التي تؤمن بالحياة بعد الموت (بأسلوب يتراوح بين التقمص وخلود الروح)، والمرجح أن نورمان ميلر، قرّر أن يكتب ذلك النص الطويل انطلاقاً من هذه الفكرة التوضيحية، خصوصاً أن الكاتب كان مهموماً خلال تلك المرحلة من حياته بكتابة رواية عن العصر الفرعوني عنوانها «مساءات قديمة»، سينجزها بعد «أنشودة الجلاد» بأربع سنوات... وقد لا نكون هنا في حاجة إلى الإسهاب في الحديث عن أن فكرة الخلود هي التي تسيطر أيضاً على «مساءات قديمة»، ما يفسر الرابط - في فكر ميلر - بين العملين.
لقد كان إعدام جاري جيلمور أول إعدام يتم في ولاية أمريكية (هي يوتاه) منذ أُعيد العمل بالإعدام عام 1976، ووأضح أن هذا الأمر أضاف عنصراً جديداً أعطى «أنشودة الجلاد» أهميته، وجعل تبنيه ممكناً من كان يحاول أن يدفع السلطات إلى إلغاء الإعدام كحكم قضائي من ناحية، ومن كان يرى حكم الإعدام مفضلاً على السجن المؤبد، من ناحية ثانية. فالحجج التي يمكن أن تستقى في الحالين قوية. وعلى أي حال، فإن ميلر سيقول لاحقاً، انه لم يؤلف هذا الكتاب انطلاقاً من همّ أيديولوجي أو لرغبة في أن يدلي برأي قاطع في المسألة، بل ألّفه بهمّ جمالي وإنساني. ومن هنا، بدلاً من أن يلجأ إلى صيغة سردية، ركّب معظم صفحات الكتاب من حوارات أجراها وصاغها كما هي، أجراها مع أفراد من عائلة المجرم ومع أصدقائه كما مع أناس عرفوه من دون أن يرتبطوا به. ولقد جعل ميلر الكتاب في قسمين، مركزاً أول الأمر على الأحداث التي أدت تباعاً، إلى ارتكاب جيلمور جريمته المزدوجة، ثم إلى القبض عليه فمحاكمته وصولاً إلى إعدامه، بما في ذلك نشر الوثائق المتعلقة بالمحاكمة خصوصاً المرافعات التي أكد فيها جيلمور أنه يفضل الإعدام على السجن.
في القسم الأول من الكتاب يحدثنا نورمان ميلر عن طفولة جيلمور و«تربيته الفاسدة» وصولاً إلى إدخاله إصلاحية الأحداث ثم السجن مرات بسبب جنح ومفاسد ارتكبها. ويركز هذا القسم خصوصاً على الشهور الكثيرة التي مرت بين خروج المجرم الشاب آخر مرة من السجن وارتكابه جريمته المزدوجة الأخيرة التي سرعان ما سُجن وحوكم عليها.
أما في القسم الثاني، فإن ميلر يركز على المحاكمة نفسها، لا سيما على مراحلها الأخيرة حين صدر حكم غير مبرم بالإعدام، وبدأ المحامون وحتى النائب العام، يقنعون جيلمور بأن يستأنف الحكم، إذ قام صراع عنيف بين المجرم والمدافعين عنه، من حول هذه القضية: هو يرفض ويصر على أن يُعدم، من دون أن يجد مبرراً مقنعاً لموقفه، وهم يصرون، ليس رأفة به فقط، بل لعدم رغبتهم في أن تسوء سمعة ولايتهم بصفتها أول ولاية تنفذ، في ذلك الحين، حكماً بالإعدام. في هذا المعنى يمكن قراءة هذه الصفحات الرائعة من كتاب نورمان ميلر، لكونها صفحات تصور «هذا الانتقام» الموارب الذي مارسه جيلمور إزاء ولاية يوتاه، وسط سجال حاد كان يدور على المستوى القومي في ذلك الحين من حول قضيته، وأيضاً كما أشرنا من حول قضية الإعدام.