عزيزى المواطن فى منزله يمكن أن نستثمر الوقت ونقرأ معا كتاب "اليهود والعالم والمال" لـ جاك أتالى، ترجمة عاصم عبد ربه وتميم فتح الباب، وقد صدر عن المركز القومى للترجمة.
وقد كرس الدكتور جاك آتالى، عمله الضخم، الذى يضاف إلى آلاف المؤلفات التى تناولت هذا الموضوع، لإيضاح مراحل تاريخ علاقات اليهود بغيرهم من الجماعات الإنسانية وبالمال؛ عصب الحياة، بدءا بالعام ألفين قبل الميلاد وحتى وقتنا الراهن، بل إنه حاول استطلاع ما سيكون عليه الحال نحو عام 2050.
طرح المؤلف العديد من الأسئلة التى كان بعضها جارحا وتولى بنفسه الإجابة عنها، مقدما فى كل حالة وجهتى نظر؛ إحداهما موالية والأخرى معارضة تاركا للقارئ حرية الاختيار وإن بدا لنا أن آتالى كان يلتمس العذر لليهود فى كل مرة.
وكتب إدريس الكنبورى عن الكتاب يقول "الباحث الفرنسى المعروف "جاك أتالى" اليهودى والمستشار الثقافى للرئيس الفرنسى السابق هنرى ميتران جعلها موضع دراسة علمية مستقلة، ضمنها كتابا صدر العام الماضى 2002 تحت عنوان" اليهود، العالم والمال: التاريخ الإقتصادى للشعب اليهودي" فى ( 638 ) صفحة من الحجم الكبير، هو الأول من نوعه فى هذا الموضوع.
والكتاب من الضخامة بحيث من غير الممكن تلخيصه فى صفحات، ولكنه ملىء بالمعطيات والإحالات والوقائع التاريخية، خاصة وأن صاحبه يهودى فرنسى ومن رجال الأعمال الفرنسيين أيضا، ما يجعل كتابه مساعدا لفهم هذه الناحية من نواحى حياة اليهود. ويقول المؤلف أن العلاقة بين اليهود والمال" بقيت طوال قرون مثل العلبة السوداء التى يعتقد الجميع أن بداخلها ثعبانا ولا يقدر أحد على فتحها، لأن الإعتقاد الشائع أن هذه العلاقة هى مبرر معاداة السامية ومنبع المأساة، إذن فقد كان المعتقد هو أنه من الأفضل عدم الحديث عنها".
ويشير المؤلف إلى أنه انطلق فى كتابه من أنه لابد فى الوقت الحالى من فهم العلاقات القوية بين الاقتصادى والديني، وأن"تفجيرات 11 سبتمبر ضد مركز التجارة العالمى هى استعارة مأساوية لذلك الترابط بين الإقتصادى والدينى، ويبدو من خلال الكتاب أن جاك أتالى - المعروف بتأييده للدولة الإسرائيلية والحركة الصهيونية- يريد أن يقدم خدمة لليهود بإظهار دورهم الكبير فى نشأة النظام الرأسمالى، وأن الرأسمالية مدينة لهم.
يبدأ المؤلف كتابه من بداية ظهور اليهود فى التاريخ، متتبعا مسار التاريخ اليهودى والهجرات اليهودية قبل نشأة تجمعاتهم وبداية التعامل بالنقد، ليقول إن اليهود جعلوا من المال منذ وقت مبكر" البديل عن ممارسة العنف "، والمقصود بذلك أنهم جعلوا المال مرادفا لعنف أقل وضوحا وأكثر خفاء، أى وسيلة أخرى للغلبة غير العنف . وفى الحضارة المصرية القديمة لعب اليهود دور تجار وسماسرة الإمبراطورية خاصة في" طيبة "، الأمر الذى جعل الفراعنة يحاربونهم، ويقول المؤلف: إن اليهود أثناء خروجهم من مصر إلى الشتات"حملوا معهم ثروات كبيرة نهبوها (المؤلف يستعمل فعل أخذ لا نهب) كتعويض عن سنوات العبودية فى مصر".
بعد أربعين عاما من التيه سيستقر اليهود فى أرض"كنعان"، وهنا بدأ التعامل الحقيقى بالنقد كـ"تجريد" فى التعامل اليومى بين اليهود وباقى الشعوب، ويرى المؤلف أن علاقة اليهود بالمال تجد جذورها فى اللغة العبرية نفسها التى شكلت الوعى اليهودى المبكر، فاللغة العبرية لا تعرف فعل التملك"والشيئ المملوك لا يتميز عن الشخص الذى يملكه، والأشياء تعيش فى حياة صاحبها، إن كلمة المال تتكرر فى العهد القديم 350 مرة بمرادفات مختلفة منها كلمة ( كوسّيف) التى تعنى الرغبة، والمال يسهل الحصول على جميع الأشياء، فقط السرقة هى المحظورة"، ويرى المؤلف أن اليهودى جعل من المال الوجه الآخر للألوهية على الأرض" لقد جعل الشعب اليهودى من المال الأداة الوحيدة والكونية للتبادل، تماما كما جعل من إلهه الأداة الوحيدة والكونية للمطلق"، وقد أصبح المال بالنسبة لليهودى "الوسيلة الممكنة لخدمة الإله"، و" كلما كان اليهودى أكثر ثراء كلما كان أكثر خدمة للإله"، هكذا بدأ اليهود فى تغيير شرائعهم بحسب هذه القاعدة الذهبية فى حياتهم، فأصبح بإمكان اليهودى "شراء" حق البكورية الذى يخول للابن البكر فى الأسر المقيمة(غير المترحلة) الحصول على ضعف نصيب إخوته من الإرث.
أما التعامل الربوى لليهود حسب المؤلف فقد ظهرفى الإمبراطورية الرومانية التى كان يعيش بها 6 ملايين يهودى، حيث صار اليهود هم "الحرفيون والتجار والمقرضون والسماسرة "، وفى عام 66 قبل الميلاد سيتعرض اليهود للإبادة على يد الرومان، حيث استولى" نيرون" على حصن"ماسادا" الذى شهد الإنتحار الجماعى لليهود.
ويرى المؤلف أن الربا بالنسبة لليهودى أمر مشروع عندما يتعلق الأمر بالقرض الربوى لغير اليهودى " لأن الربح ليس سوى العلامة على خصوبة المال".
حين يدرس المؤلف الوجود اليهودى فى الدولة الإسلامية يقول: بإن اليهود كانوا هم الوحيدين الذين يعرفون القراءة والكتابة فى الخلافة الإسلامية " الأمر الذى جعل الحاجة إليهم قوية "، وقد أصبح اليهود هم المسيطرون على "الشبكة الدولية للسماسرة والتجار والمبادلين بالرغم من أنهم كانوا فى مرتبة دنيا قانونيا، لأنه وفق مبدإ الذمية القرآنى ينبغى حماية الأدنى" وهو يعنى الذمى فى مغالطة واضحة، ويرى أن"العبقرية اليهودية فرضت نفسها بسرعة" رغم ذلك الوضع الذى أشار إليه " فوزير المالية للخليفة الثالث فى دمشق كان يهوديا".
ويتحول المؤلف إلى أوروبا بعد انتقال اليهود إليها عقب سقوط بغداد والخلافة الإسلامية "وتحول مركز الثقل إلى أوروبا"، فقد كانت هذه الأخيرة تشكو من الحاجة إلى النقد المعدنى " ولم يكن هناك ما يكفى من الذهب والفضة لضمان إجراء العقود والمعاملات"، وفى هذه الوضعية قرب العام 1000 م وجد اليهود الذين قدر عددهم فى أوروبا بنحو150000فقط أنفسهم "فى وضعية عجيبة بحيث أصبحوا الوحيدين الذين لهم حق منح قروض بينما الحاجة إلى المال قوية"، وكانت هذه المهمة هى الوحيدة المسموح لهم به" لقد كانوا نافعين والمسيحيون اعترفوا لهم بذلك"، وخلال القرون الثلاثة التالية لعب اليهود أدوارا سياسية من بوابة المال، فقد عايشوا فى أوروبا مرحلة إنشاء الدول القومية، فأخذ الملوك أيضا يقصدونهم "وكان اليهود مستعدين للدفع من أجل أى شيء، حتى من أجل المعارك والحروب الصليبية".
ونظرا للتعامل بالربا فإن اليهود تمكنوا فى وقت قصير من مراكمة ترواث طائلة، فهم كانوا يقرضون المال لمهلة من عام أو أقل ومقابل أرباح كبيرة، مما كان يضاعف أموالهم بنسبة 50 إلى 80 %" فسار تراكم المال بسرعة".