نقرأ معا كتاب "العدم: مقدمة قصيرة جدًّا" لـ فرانك كلوس، ترجمة فايقة جرجس حنا، ومحمد فتحى خضر، الصادر عن مؤسسة هنداوى، والذى يتحرك من سؤال "ما العدم؟ ما الذى يتبقى بعد زوال المادة من أرض، وقمر، ونجوم؟ هل ثمة وجود للفضاء الخاوى تمامًا... للعدم؟
يخبرك هذا الكتاب القصير الرشيق بكل ما تحتاج معرفته عن "العدم"، وفيه سيصحبنا العالم فرانك كلوس فى رحلة مثيرة بداية من الأفكار القديمة والخرافات الثقافية، ووصولًا إلى أحدث ما توصلت إليه الأبحاث الحالية، ملقيًا الضوء على الكيفية التى استكشف بها العلماء الفراغ والعدم والاكتشافات الثرية التى حققوها فى هذا الصدد.
ماذا لو لم تكن هناك حياة ذكية؟ بأى منطق كان سيوجد أى من هذا لو لم تكن هناك حياة تدركه؟ منذ عشرة مليارات عام كان من الممكن أن يكون الحال على هذا النحو: فراغ ميت يعج بسحب البلازما وكتل قاحلة من الصخور تدور فى الفضاء الفسيح. مع أن حقبة «ما قبل الوعي» هذه خلت من الحياة، ولا بد أنها كانت أشبه بامتداد عظيم لنظرتى الخاصة عن الكون قبل عام مولدى التى تراقصت فيها الجاذبية دون أن يدرى بها أحد، فإن الذرات نفسها التى وُجدت حينها هى نفسها التى نتكون منها نحن اليوم. نُظمت مركبات معقدة من هذه الذرات، التى كانت خاملة فى السابق، لخلق ما نطلق عليه الوعى وصارت قادرة على أن تستقبل، من أطراف الكون البعيدة، ضوءًا بدأ رحلته فى تلك الأوقات المبكرة الخالية من الحياة. وبمقدورنا فى «حاضرنا هذا» أن نستدل على تلك الحقبة الميتة المبكرة، وهو ما يضفى عليها نوعًا من الواقعية. إننا لم نُخلق من العدم، وإنما من «مادة أصلية» أولية؛ من ذرات تكونت منذ مليارات السنين جُمعت لفترة زمنية قصيرة فى أجساد البشر.
هذا يقود بدوره إلى سؤال: ماذا لو لم يكن هناك حياة أو أرض أو كواكب أو شمس أو نجوم أو ذرات تتمتع بالقدرة على إعادة تنظيم نفسها إلى أشياء مستقبلية؛ ماذا لو كان هناك فراغ وحسب؟ بعد أن أزلت كل شيء من صورتى الذهنية عن الكون حاولت تخيل العدم المتبقي. وعندئذ اكتشفت ما أدركه الفلاسفة على مر العصور: من الصعب جدًّا التفكير فى الفراغ. حين كنت طفلًا ساذجًا، لطالما تساءلت أين كان الكون قبل مولدي، والآن أحاول تخيل ماذا كان سيوجد ما لم أوُلد على الإطلاق. «إننا محظوظون لأننا سنموت»، ولن يتمتع العدد اللانهائى من الأشكال الممكنة للحمض النووى بالوعى أبدًا، خلا بضعة مليارات منها وحسب. ما الكون بالنسبة لأولئك الذين لن يولدوا أبدًا أو للأموات؟ كل الثقافات وضعت خرافاتها بشأن الموتى؛ إذ إنه من الصعب جدًّا القبول بأن الوعى يمكن أن يندثر بسهولة عندما تتوقف مضخات الأكسجين عن ضخ الأكسجين إلى المخ، لكن ما الذى يعنيه الوعى لتجميعات الحمض النووى التى لم ولن يكتب لها الوجود أبدًا؟
إن فهم كيفية بزوغ الوعى وموته يماثل فى الصعوبة فهم كيفية نشأة شيء ما؛ مادة الكون، من العدم. أكان هناك فعل خلق أم أن شيئًا ما كان موجودًا على الدوام؟ أكان من الممكن حتى أن يوجد عدم إذا لم يكن هناك من يدركه؟ كلما حاولت فهم هذه الألغاز، شعرت أننى إما أقترب من الحقيقة أو أننى على حافة الجنون. مرَّت السنون، وبعدما قضيت حياتى عالمًا يحاول أن يسبر غور الكون، رجعت إلى هذه الأسئلة وقمت برحلة للعثور على الإجابات الموجودة. كانت النتيجة هى هذا الكتاب الصغير. أشعر بالإطراء حين أعرف أننى حين أوجه مثل هذه الأسئلة، فأنا بهذا أنضم إلى صحبة طيبة؛ ذلك لأن هذه الأسئلة طرحها بشكل أو بآخر بعض من أعظم الفلاسفة على مر العصور. علاوة على ذلك، لم يتفق الجميع على إجابة بعينها. من وقت لآخر، حين تسود إحدى الفلسفات على ما سواها، كانت الحكمة المكتسبة تتطور هى الأخرى. أيمكن أن يوجد خواء؛ حالة من العدم؟ يبدو أن إجابات هذه الأسئلة، شأن الأسئلة المتعلقة بوجود إله من عدمه، تعتمد على تعريفك لماهية العدم.
عندما تناول فلاسفة الإغريق القدامى هذه الأسئلة من خلال قوة المنطق، خرجوا علينا بآراء متعارضة. زعم أرسطو أنه لا يمكن أن يوجد مكان فارغ، بل ارتقى هذا الرأى إلى مقام مبدأ مفاده أن «الطبيعة تمقت الخواء». ما الذى يعنيه هذا؟ وما سبب سيادة هذا الظن لألفى عام؟ هذه من أوائل الأسئلة التى سأتناولها. فى القرن السابع عشر، ومع بزوغ المنهج التجريبي، أدرك تلاميذ جاليليو أن هذا الاعتقاد يرجع إلى سوء تأويل للظواهر؛ إذ إن مقت الخواء ذلك إنما ينجم عن وجود الغلاف الجوى الذى يزن عشرة أطنان ويضغط على كل متر مربع من كل شيء موجود على الأرض، وهو ما يتسبب فى إقحام الهواء فى كل ثقب متاح.
كما سنرى لاحقًا، من الممكن إزالة الهواء من الأوعية وصنع فراغ. كان أرسطو مخطئًا. على الأقل هذه هى النتيجة لو لم يكن هناك سوى الهواء؛ فبإزالة الهواء سيُزال كل شيء. ومع تقدم العلم، واتساع مداركنا وحواسنا بواسطة وسائل أكثر تعقيدًا، بات جليًّا أنه ينبغى إزالة ما هو أكثر بكثير من الهواء وحسب للحصول على فراغ حقيقي. يرى العلم الحديث أنه يستحيل من حيث المبدأ صنع فراغ تام، لذا لعل أرسطو لم يكن مخطئًا فى نهاية المطاف. ومع ذلك، لا يمانع العلماء المعاصرون فى استخدام مفهوم الفراغ، ومن أحد تفاسير الفيزياء الحديثة أنها تصب جمَّ تركيزها على محاولة فهم طبيعة الفراغ، الزمانى والمكاني، فى أبعادهما المختلفة.
لكن السؤال الذى طرحته على نفسى بمنتهى البراءة هو فى الحقيقة أكثر إبهامًا؛ على اعتبار أننا نعرف اليوم ما لم يعرفه أحد حينها: ألا وهو أن الكون يتمدد، وكان يتمدد طيلة أربعة عشر مليار سنة تقريبًا منذ ما سمى بالانفجار العظيم. ونظرًا لأنه لا المجموعة الشمسية ولا الأرض ولا الذرات التى تكوِّن أجسادنا تتمدد، نستنتج من هذا أن «الفضاء نفسه» هو الذى يتمدد. وعندما نرجئ الآن سؤال «إلى أى مدى سيتمدد»، سنجد تكملة أخرى لسؤالى الأساسي: إذا أزلت كل شيء، فهل سيظل الفضاء يتمدد؟ وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال عما يكون الفضاء عليه لو أننا أزلنا كل شيء. هل يوجد الفضاء بمعزل عن الأشياء، بمعنى أننى لو تخلصت فكريًّا من كل تلك الكواكب والنجوم والأجزاء المتنوعة للمادة، هل سيبقى الفضاء حينها أم أن التخلص من المادة سيودى بالفضاء أيضًا؟ لنبدأ إذن رحلتنا البحثية لنتعرف على الأفكار التى يمكن أن نستقيها من مفكرين أكثر حكمة على مر التاريخ ونحاول الإجابة عن أسئلة مثل: هل بمقدورنا تفريغ الفضاء من كل شيء؟ وإن استطعنا ذلك، ماذا سينتج؟ لماذا لم يحدث الانفجار العظيم فى وقت مبكر عن ذلك؟ لو جاء الكون نتيجة فعل خلق، فما الذى كان موجودًا قبل هذا الخلق؟ أم أن شيئًا ما كان موجودًا على الدوام ثم تحول ليصير نحن البشر؟