لا أدرى لماذا دفعتنى أوقات العزلة الإجبارية التى يعيشها العالم فى هذه الأيام القلقة إلى إعادة تأمل فن الشعر فى لحظتنا الراهنة المتوترة.
ربما لأن الشعر قرين القلق السرمدى والتوتر الخلاق والحركة الدءوبة وعدم الرضا بالواقع المعيش، فهو مشغول دائما بالتطلع الوثاب إلى أفق الآتى والتحديق المستمر فى فضاء المستقبل.
والشعر الحقيقى لا يعرف الصياغات النهائية، ولا النماذج المكتملة، أو الوصايا النقدية المعلبة، لأنه الفن القادر باستمرار على تجسيد حرارة اللقاء الفردى بين الذات والعالم، والمؤهل دائما لإضاءة ملامح النفس المتعددة والإمساك بمشاعرها المراوغة.
وقد ظل الشعر عبر تاريخه الطويل فى تراثنا العربى الممتد يراكم منجزه الجمالى، ويضيف الجديد إلى كيانه السامق المتنامى حتى وصل إلى محطته الحالية فى لحظتنا العصرية الحاضرة . وهى لحظة منفتحة على فضاءات التعدد ومذاقات التعبير المتنوعة، ترفض هيمنة نموذج شعري واحد لا يعترف بما سواه ، وتكرس في الآن ذاته لهوية شعرية مركبة، تشكلت عبر منظومة التفاعل العميق بين الشعر والعالم المحيط بكل تجلياته العديدة من ناحية، والتداخل المستمر بين الشعر والأجناس الأدبية والفنون التشكيلية والوسائط البصرية من ناحية أخرى.
إذ لم يكتف الشعر بأن يكون ذلك الكائن الاجتماعي الصاخب التابع للأحداث الكبرى، المنخرط في ترديد أصدائها الزاعقة، أو ذلك الكائن الحساس المنعزل عن العالم ، الملتحف برقته العاطفية وصياغته الغنائية المألوفة .
لقد غادر الشعر وضوحه القاتل ولغته المطمئنة ودلالاته الرتيبة، ولم تعد الكلمات تحظى فيه بهوية ثابتة يخضع لها الشاعر، كما يخضع لها عموم الناس، بل أصبح للكلمات هوية متحركة قابلة للتحول إن أراد لها الشاعر المقتدر ذلك.
وصارت معظم القصائد الحديثة تتظاهر بقول شيء وهى تعني شيئا آخر، وأضحى الوعى الذاتي بديلا عن المعارف المسبقة وأمست التأويلات الفردية مهيمنة على الحقائق المتاحة، وارتقى الشعراء الموهوبون إلى مقامات الرؤى المدهشة عبر صياغاتهم المختلفة القادرة على إنتاج معان جديدة للأشياء والمفاهيم ونسج عوالم أخرى لها ، دون أن يعنى ذلك أنهم غادروا الخارج الاجتماعي بل ظل انشغالهم " بالخارج" محفزا لتفرد "الداخل"، وصار انهماكهم في ممارسة "الكتابة" محرضا على إنتاج "المعرفة". وهى معرفة نوعية مغايرة للطرائق المعتادة في التفكير والتصورات المطروحة عن العالم؛ إنها معرفة تحمل روح التساؤل حين تهم بمعانقة اليقين وتحمل روح الأجوبة حين تشرع في إثارة الأسئلة.
وإذا كان مشهدنا الشعري الراهن يبدوا مجسدا لحالة كرنفالية تتجاور فيها الأشكال الشعرية ؛ فتتحاور أحيانا وتتصارع في أحيان أخرى، فإن حداثة الشعر وجدته وأصالته تكمن في قدرة الشاعر على التفاعل الحيوي مع عالمه وفي التقاط شفراته الدالة، الفاعلة في لحظته العصرية، بما يمتلكه من موهبة وثقافة وأدوات إبداعية قادرة على ابتكار الشكل الشعري الخاص الذي يطل منه الشاعر على مجتمع الأدب مبتدعا نافذة لرؤيا تستقرئ تجدد الحاضر وتستشرف أفق المستقبل.