نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907- 1987) قراءة تاريخ العرب قبل الإسلام والوقوف مع علاقاتهم الخارجية وظروفهم الداخلية ومن ذلك علاقة العرب بكل من الساسانيين والبيزنطيين من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب" وسؤال اليوم: هل طلب الساسنيون والبيزنطيون ود العرب؟
يقول جواد على:
حدث تطور خطير فى الشرق الأدنى بعد الميلاد، فقد زالت حكومة "البارثيين" "الفرث"، فى حوالى سنة "226ب. م."، وحلت محلها حكومة عرفت بحكومة "الساسانيين"، وهى حكومة نبعت من ثورة على الحكومة السابقة، تولى كبرها ملوك أقوياء أظهروا حزمًا وشدة جعلت الروم يهابونهم، ويرون أنهم مكافئون لهم فى القوة، ولم يكن الروم ينظرون إلى "الفرث" بهذه النظرة من قبل.
وحدث تطور مشابه فى إمبراطورية "روما"، فقد انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين، وصارت "القسطنطينية" عاصمة للجزء الشرقي، الذى كون الإمبراطورية "البيزنطية"، وذلك فى سنة "330م"، وتولت هذه الإمبراطورية إرث النزاع مع الفرس، النزاع الموروث من الإسكندر، وأصبحت بحكم وجودها فى بلاد الشأم وفى مصر على اتصال بالعرب فى البر وفى البحر.
وكان لا بد للساسانيين والبيزنطيين من التعامل مع العرب، ومن استرضائهم، ووضع حساب لهم. فقد كانت لكل من الإمبراطوريتين حدود واسعة طويلة معهم كما كان فى كل من الإمبراطوريتين قبائل ذات شأن نازلة فى أرضها فى مناطق حساسة هى حافات الحدود، وأما البادية: بادية الشام التى تملأ الهلال الخصيب، فقد كانت مملوءة بقبائل عربية تعرف عند الروم باسم Saracens وScenites، وتعنى الكلمة الأخيرة سكان الخيام، أو أهل الخيام، وهى كما قال أحد المؤرخين "الكلاسيكيين" فى تنقل مستمر وحركة دائمة من مكان إلى مكان، إذا وجدت أرضًا خصبة عاشت عليها، وإلا كسبت معيشتها بالغزو، تغير على أرض الفرس أو الروم، فإذا جابهتها قوة، تقهقرت إلى البادية حيث عسر على غير الأعراب ولوجها لتأديبهم، ولهذا لم يكن أمام الحكومات الكبيرة إلا استرضاء تلك القبائل؛ لصيانة حدودها وللاستفادة منها فى إلقاء الرعب فى قلوب الأعداء والخصوم.
وسلك البيزنطيون السياسة التى سلكها حكام "روما" من قبلهم، وهى سياسة التقرب إلى سادة "أكسوم"، وعقد اتفاقيات ود وصداقة معهم، لضمان مصالحهم وللضغط على حكام السواحل العربية المقابلة لهم، لجلبهم إلى جانبهم ولمنعهم من التحرش بسفنهم وبتجارهم الذين كانوا يرتادون البحار إلى الهند والسواحل الإفريقية ويقيمون فى مواضع من السواحل والجزر على شكل جاليات، كما هى الحال فى جزيرة "سقطرى". وقد نجحت سياستهم هذه نجاحًا أدى إلى غزو الجيش لليمن بتحريض من الروم فيما بعد.
وسلكوا سياسة حكام "روما" أيضا فى تقوية حدود بلاد الشأم وضمان سلامتها من غارات الأعراب أو الفرس عليها، ببناء سلسلة من الاستحكامات فى البوادى وفى مفارق الطرق المؤدية إلى تلك البلاد، وبتقوية "خطة ديوقليطيان" Diocletian الدفاعية الشهيرة التى وضعها، بالدفاع عن الحدود من مصر إلى نهاية الفرات، وفى جملتها تحصين مدينة "تدمر" قلب الدفاع، والمواقع العسكرية الأخرى المقامة فى البادية؛ لتكون الموانع الأولى للأعراب من مهاجمة بلاد الشأم، والرادع الذى يردعهم عن التفكير فى الغزو.