تقرأ معا كتاب "عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف جيري بروتون، ترجمة إبراهيم البيلي محروس، ومراجعة هبة نجيب مغربى، وصدر عن مؤسسة هنداوى.
يقول الكتاب مثَّل عصر النهضة لحظة حاسمة في التاريخ، فهو عصر تمخَّض فيه التبادل الكثيف للأفكار والمهارات والبضائع عن إدراك جديد للإنسانية والعالم، وقد شهدت تلك الفترة من التاريخ ميلاد فنٍّ عظيم وأدب راقٍ وعلم جليل، وفي هذا الكتاب يفسر جيري بروتون أسباب حدوث ذلك، ويكشف النقاب عن العوامل الكثيرة التي تقف وراء هذه الإنجازات: التطورات التكنولوجية في الطباعة ورسم الخرائط، والتطورات في الفلسفة والدين والاستكشاف، وكذلك التقدم في مجال التجارة الدولية.
ترسم هذه المقدمة القصيرة جدًّا صورة كاملة الملامح عن تلك الفترة من التاريخ، وتكشف أن عصر النهضة كان ظاهرة عالمية بحق جمعت بين الشرق والغرب، ولا يزال في جعبتها الكثير لتعلمنا إياه في عصرنا الحالي.
عادة ما يرتبط عصر النهضة بدويلات المدن الإيطالية مثل فلورنسا، ولكن درجة الأهمية التي لا شك فيها التي تحتلها إيطاليا غالبًا ما حجبت تطور الأفكار الجديدة في شمال أوروبا وشبه جزيرة أيبيريا والعالم الإسلامى وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، ولكي نعرض طبيعة عصر النهضة من منظور عالمي شامل، سيكون من الدقة أن نشير إلى سلسلة من عصور نهضة في تلك المناطق، والتي عكس كل منها مميزات تلك المناطق وسماتها الخاصة.
وعصور النهضة في هذه المناطق غالبًا ما كانت تتداخل وتتبادل التأثير مع عصر النهضة الكلاسيكي المعروف الذي اتخذ من إيطاليا مركزًا له، فقد كان عصر النهضة ظاهرة دولية سلسة ومتنقِّلة بصورة متميزة.
واليوم، هناك إجماع على أن تعبير "عصر النهضة" يشير إلى تغير عميق ودائم وتحول في الثقافة والسياسة والفن والمجتمع في أوروبا ما بين عامي 1400 و1600، والكلمة تشير إلى فترة من التاريخ، وإلى نموذج أكثر شمولًا من التجدد الثقافي، وهي مشتقة من كلمة فرنسية تعني "إحياء".
ومنذ القرن التاسع عشر، استخدم هذا المصطلح لوصف فترة من التاريخ الأوروبي شهدت إحياء التقدير الفكري والفني للثقافة اليونانية-الرومانية، والذي أدى إلى ظهور المؤسسات الفردية والاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحدد هوية الكثيرين في العالم الغربي اليوم.
وغالبًا ما يرى مؤرخو الفن أن عصر النهضة يبدأ من القرن الثالث عشر، مع فن جوتُّو وتشيمابو، وينتهي في أواخر القرن السادس عشر بأعمال مايكل أنجلو، ورسامي فينيسيا مثل تيتيان، ومن ناحية أخرى، يتبنى الباحثون في مجال الأدب في العالم الأنجلو-أمريكي منظورًا مختلفًا، فيركِّزون على نشأة الأدب الإنجليزي باللغة العامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر في شعر ودراما سبنسر وشكسبير وميلتون.
أما المؤرخون، فيتبنوَّن نهجًا مختلفًا، حيث يطلقون على الفترة من حوالي 1500 إلى 1700 "أوائل العصر الحديث"، بدلًا من "عصر النهضة" وقد ازدادت حدة هذه الاختلافات في تأريخ — وحتى تسمية — عصر النهضة لدرجة أثارت الشكوك في صحة هذا المصطلح؛ فهل لا يزال للمصطلح أي معنى؟ وهل من الممكن فصل عصر النهضة عن العصور الوسطى التي سبقته وعن العصر الحديث الذي تلاه؟ وهل هذا المصطلح يدعم الاعتقاد بالتفوق الثقافي الأوروبي؟ للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم أولًا كيف ظهر مصطلح «عصر النهضة» إلى الوجود.
لم يكن الناس في القرن السادس عشر يعرفون مصطلح "عصر النهضة"، وكانت الكلمة الإيطالية بمعنى "إحياء" تستخدم في القرن السادس عشر للإشارة إلى إحياء الثقافة الكلاسيكية، ولم يستخدم المصطلح الفرنسي "عصر النهضة" كعبارة تاريخية وصفية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو المؤرخ الفرنسي جول ميشليه، القومي الفرنسي الذي كان ملتزمًا بقوة بمبادئ المساواة التي أفرزتها الثورة الفرنسية.