عادل ضرغام يكتب: من المدنس إلى المقدس إعادة النظر إلى التاريخ فى رواية شغف

تأتي رواية شغف للكاتبة رشا عدلى مشدودة إلى مقاربة جديدة للتاريخ، المتفق عليه، وذلك من خلال تمرير وجهة نظر مغايرة للسائد والمستقر، ومن خلال استكمال الفجوات التى سكت عنها التاريخ، فالخطاب الروائي الذي يتماس مع التاريخ يمكن أن يكون مشدودا إلى توجهات عديدة، أو إلى مراحل عديدة، منها مرحلة البداية التي تقف عند حدود التعلم مع إضافة عنصر أو خيط من خيوط الإبهار مثل قصص الحب التي يشكلها المؤلف على نحو ما نراه عند جورجي زيدان. ومنها المرحلة التالية التي يقف محفوظ علما عليها، وتقف عند حدود إسقاط الماضي على الآني. وتأتي بعض الروايات مجدولة على الأعراف بين التوجه الثاني الذي يمثله محفوظ، والتوجه الأخير المرتبط بالتخيل التاريخي، فرواية مثل (السائرون نياما) لسعد مكاوي، باهتمامها بالهامش والعادي بعيدا عن طبقة الحكّام، أبرقت إلى توجه جديد في كتابة الرواية المشدودة إلى التاريخ، فلم تعد الطبقة العليا هي المهيمنة، ولم يعد الحكّام أصحاب الحضور الطاغي، وإنما أصبح الحضور الطاغي لطبقة الهامش. أما التوجه الأخير في كتابة ذلك النوع فأعتقد أنه يبدأ في الأدب العربي من رواية (الزيني بركات للغيطاني)، وبدأت بعدها الرواية العربية في معظم الأقطار تحتفي بالتاريخ، بشكل لافت للنظر مثل (مجنون الحكم) و(العلّامة) و(وهذا الأندلسي) لبن سالم حميش، و(البشموري) لسلوى بكر، و(الموريسكي الأخير) و(صلاة خاصة) لصبحي موسى. هذا التوجه لا يكتفي بنسخ التاريخ المسجلة أو المتفق عليها، وإنما يقدم من خلال نصه الروائي نسخته الموازية لنسخ التاريخ، فلا يقف عند إضافة عنصر التشويق كما فعل جورجي زيدان، ولا يأتي اهتمامه منصبا على عقد مشابهة بين الماضي والحاضر مستندا إلى التلقي القائم على فكرة الإسقاط، وإنما يهتم انطلاقا من لحظة آنية معاصرة، بالكيفية التي يمكن أن يرى بها الماضي، ويضيف ويعدل فيه وفقا لمنطلقاته ولوجهة نظره مستندا إلى السياق العام أو الخاص. فإذا كان التاريخ في التوجهين السابقين يرفد الآني المعاصر المرتبط بحاضر ما، فإن الحاضر في التوجه الأخير يرفد الماضي ويضيف إليه، ويجعلنا نعاينه بشكل مغاير عن الثابت والمقرر سلفا من خلال الخطابات التي تم الاتفاق حولها. رواية (شغف) تقوم على إعادة التفكير في التاريخ، وعدم الوثوق بالنسخ المتاحة التي يتشكل حولها الاتفاق أو شبه الاتفاق حول مشروعيتها، بداية من اعتناق سردية تاريخية مغايرة لصورة زينب البكري ابنة الشيخ خليل البكري، وذلك بإنشاء سردية مشدودة إلى النسوي مقابل البطريركي الذكوري، والمستعمِر مقابل المستعمَر، ومن خلال مساءلة مستمرة لمفاهيم مثل (المجرم) و(البطل) والتوصيف الخاص بهما حين يرتبط الأمر بشخصين متقابلين تختلف حولهما وجهة النظر استنادا إلى أيديولوجية محددة مثل كليبر والحلبي. والرواية في ظل ذلك الجانب المعرفي تعيد طرح أسئلة خاصة عن أثر الحملة الاستعمارية في التحديث من خلال الفكر، ومن خلال النماذج المقدمة لتمثيل تلك الفكرة، مشيرة في ذلك السياق إلى اختلاف الرؤية لدى رجل الحرب ورجل الفكر من خلال شخصيتي نابليون وألتون جرمان، والأول يلح على الهدف العسكري وعلى النصر والهزيمة، والآخر تحركه المفاهيم الإنسانية. فالمقارنة بين العسكري (بونابرت) والفنان (ألتون جرمان)لا تلقي بظلالها على وجهة النظر السابقة فقط، وإنما تخطط وتظلل طبيعة الحركة والتوجه في رؤية المصريين، وطريقة التعامل معهم. فالأول ينطلق في تعامله معهم من الأفكار الشائعة والمستقرة في ذلك السياق، وانطلاقا من الخديعة بإيهامهم بالانتساب إليهم، ولكنها محاولات لم تؤد إلى نصر. أما الآخر انطلاقا من الخلفية المعرفية لبناء الشخصية، فهو ينتمي إلى أسرة من النبلاء الذين جنت عليهم الثورة الفرنسية التي زلزلت النسق والتراتب الطبقي. فألتون لتكوينه الخاص بالإضافة إلى فعل الثقافة له وجهة نظر مغايرة، وهو في ذلك السياق يمثل الوجه الرائق أو الحضاري للفرنسيين، فلم يستطع الكذب على نفسه أو على فنه، ويصور بونابرت من خلال لوحاته في لحظات انتصاره، وإنما كان صادقا من خلال تصويره فريقين- المصريين والفرنسيين- متساويين يقفان على بساط واحد، فلا تخلو صورة المصريين لحظة الثورة على بونابرت من شموخ وعزة المدافع عن أرضه. ولهذا لم يجد رغبة في نفسه من الاقتراب من أهل السلطة، ولم يقترب إلا من (مينو) بعد مقتل كليبر الذي عقد اتفاقية الجلاء بعد ذلك. ونظرا لأهمية الدور الفعلي لشخصية ألتون جرمان، في تثبيت نص تاريخي مغاير للسائد والمقرر، نجد أن البناء الروائي الذي يتوزع إلى خطين سرديين، قديم وآني- حيث يبدو الآني مرتبطا بمحاولة الكشف عن صاحب اللوحة الخاصة بزينب البكري من خلال أستاذة جامعية متخصصة في تاريخ الفن وترميم اللوحات- يترك له الفرصة من خلال ضمير المتكلم، لكي يقدم وجهة نظره، وكأن في ذلك التحديد التعبيري تأصيلا للموقعية المهمة في النص الروائي، واحتفالا بالدور الذي يقوم به، وكشفا للملابسات والظروف التي شكلت تلك الفترة، وهذا يشكل مساحة كبيرة في محاولة الكشف في الخط السردي المعاصر. فالرابط بين الخطين السرديين هي تلك اللوحة التي رسمها ألتون. وقد ساعده ذلك على تخليصه من شوائب الاستعمار، وتحويل صوته إلى صوت إنساني مشدود إلى الثقافة والفكر، فهو المثقف الذي يمتلك رؤية في ذلك الغزو، فهو يراه نوعا من جنون العظمة. يؤسس النص الروائي استراتيجيته في الإطار السردي القديم على طمس ملامح النص التاريخي المتفق عليه، أو حول مشروعيته، من خلال نصوص الجبرتي التي ترى أن نزوع زينب البكري فتاة الامبراطور كان نزوعا مقصودا برغبتها، يكشف عن ذلك توبتها في النهاية. ولكن الرواية تقدم لنا نسخة مغايرة تنطلق في الأساس من جزئيات عديدة، أولها جزئية الانبهار بالمغاير، والوقوع في تقليد المنتصر، فالرواية تقول على لسان زينب (هل بإمكان الأحلام أن تتحقق؟). فهي تتمنى أن تصبح مثل النساء الفرنسيات، ترتدي ملابسهن، وتسلك سلوكهن، وتتحرك بحرية كاشفة وجهها. وبعد أن ارتدت تلك الملابس أصبحت زينب فتاة (هجين)- بتعبير منظري ما بعد الاستعمار- فلا هي تنتمي كليا إلى المصريات، ولا إلى الفرنسيات، ولهذا جاءت اللوحة المرسومة لها- وهي مدار البحث والإشكالية التي دار حولها الخط السردي المعاصر- كاشفة عن تلك الهجنة، فصورة الضفائر تتجلى بشكل يباين الملابس الفرنسية المعاصرة في حينها. تصور الرواية تلك الهجنة بقولها لحظة دخولها وهي مرتدية الملابس الفرنسية( كمن فقد هويته، ويبحث عنها، فلم تعد زينب الفتاة المصرية البسيطة، وأيضا لم تشبه الفرنسيات، ظلت واقفة في منطقة وسطى، تلك التي يصعب فيها الخطو للأمام أو للخلف، وتظل تتوارد عليك الأسئلة من أنا؟) مظاهر الهجنة في النص الروائي لا تقف عند حدود شخصية من الشخصيات، وإنما أخذت مدى واسعا، يمكن ملاحظته أو التنبه إليه من خلال تأمل نسق التقليد الذي اتبعته الشخصية المصرية في إسدال سمات التحديث، من خلال أسماء الشوارع، والمحلات الإفرنجية، والخمارات التي بدأت تنشأ وتظهر للعلن بعد أن كانت تعمل في السر. أما الجزئية الثانية التي اعتمد عليها النص الروائي في تحريك النص التاريخي إلى منحى مغاير فتتمثل في إسدال عنصر مهم وهو عنصر البطريركي الذكوري، الممثل هنا في الأب الشيخ خليل البكري. فالنص الروائي قدم لنا شخصية زينب ابنته- لا يزيد عمرها لحظتها عن خمسة عشرة عاما- وهي واقعة تحت تأثير ذلك النسق، لا تستطيع له دفعا. فقد تجلت صورة الأب مؤيدة للاستعمار ولنابليون، وكأنه في هذه الجزئية- علاقة ابنته بنابليون- الإله الخفي الذي يحرك الخيوط وفق ما يراه أو وفق ما يخطط له، فلديه نمط سابق يتمثل في أحد قادة نابليون الذي أعلن إسلامه وتزوج بمصرية، وغير اسمه من أجلها. وقد تجلت تلك الصورة واضحة، في إطار جدل الأصوات المتباينة في النص الروائي، وخاصة الجدل بين صوته وصوت زوجته (الأم) التي تمثل رؤية المصريين الجاهزة للفرنسيين بشكل عام. فالأم لا ترى في نابليون إلا قاتلا مستعمرا. وتتجلى صورته في إطار يظهره بأنه أناني بإمكانه أن يضحي بأي شيء في سبيل تحقيق أحلامه، وذلك من خلال قول الزوجة( ألهذه الدرجة أنت عبد للمكانة والمنصب؟). ولكن الجزئية الأكثر أهمية في تحريك النص الروائي من المدنس-زينب العشيقة لنابليون- إلى المقدس في سموه وارتفاعه عن حاجات الجسد تتمثل في تحويل هذا المدنس المشدود للنص التاريخي إلى أفق جديد، من خلال قصة الحب التي جمعت بين زينب البكرية والفنان والمثقف ألتون جرمان، وذلك من خلال الحركة الدائبة بين خطي السرد، والبحث المتأني في الخط السردي المعاصر. فالرواية في خطها السردي المعاصر مهمومة بالكشف عن صاحب اللوحة الخاصة بفتاة أو وجه مصرية ترتدي ملابس فرنسية حديثة. اكتشفت أستاذة تاريخ الفن التي تمر بتجارب خاصة وبميراث حياتي خاص بين أبيها الذي هاجر إلى فرنسا وأمها التي انتحرت، أن الفنان اعتمد على خصلات شعر حقيقية لتلك الفتاة، وأنها قصت هذه الخصلات حتى يكف نابليون عن الإرسال في طلبها للحضور إلى قصره، وحتى تتفرغ لحبها الطاهر العفيف مع الفنان، الذي عاقبه نابليون بحذف كل لوحاته من كتاب وصف مصر، لأنها تنتصر للإنسان ولا تنتصر للمستعمر. إن الرواية بهذا الشكل تزحزح التاريخي المتفق عليه، لتثبت التاريخي المتخيل، حتى تقيم له المشروعية ذاتها، وربما تكون مشروعية التاريخي المتخيل ذات حضور أكبر، خاصة إذا كان سؤال الهوية هو السؤال الأساس لتلك الروايات، بالإضافة إلى أسئلة عديدة تتولد عنه، ترتبط بالثقافة المصرية، ومدى قدرتها على التماس مع ثقافات أخرى، وانطلاق هذا التماس من التوازي والمساواة، وليس من الاندحار والتلاشي، ويأتي ألتون بتجليه في النص الروائي النموذج الأليق بفكرة التحديث والارتباط بالآخر، فكأن الرواية بتأسيس النسخة المتخيلة، وتحويلها من دنس زينب مع نابليون إلى قداسة العلاقة بينها وبين ألتون جرمان، تعيد تأسيس علاقتنا بالآخر في سياق عملية التحديث التي يجب أن تنطلق من الوقوف على بساط واحد. تجلى ذلك واضحا في الخيط السردي المعاصر في لقائها مع أبيها، ومع مدير المتحف العسكري الفرنسي. هي رواية تطرح الأسئلة الصعبة المرتبطة بالأفكار التجريدية، ومحاولة تقديم إجابة منطلقة من لحظة راهنة تجعل الماضي يتجلى بشكل مغاير.








الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;