نقرأ معًا كتاب "الحرب الباردة: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف روبرت جيه ماكمان، ترجمة محمد فتحى خضر، والصادر عن مؤسسة هنداوي، ويقدم الكتاب ملخصًا عامًّا للحرب الباردة، يمتد عبر الفترة من عام 1945 حتى الحل النهائي للمواجهة الأمريكية السوفييتية في عام 1990، كما يلقي الضوء على الأحداث والنزعات والقضايا الأساسية للحرب الباردة، معتمدًا في ذلك على بعضٍ من أهم وأحدث الدراسات عن الحرب الباردة.
ومن الأسئلة الإرشادية المحورية التي يتناولهاا الكتاب: كيف ومتى ولماذا بدأت الحرب الباردة؟ لماذا امتدت لهذه الفترة؟ لماذا اتسعت في بداياتها من أوروبا ما بعد الحرب لتشمل العالم أجمع تقريبًا؟ لماذا انتهت على هذا النحو المفاجئ غير المتوقع؟ وما الأثر الذي خلفته؟
يقول الكتاب: "تسببت الحرب في مقتل نحو 60 مليون شخص، قرابة ثلثيهم من المدنيين، تكبد الطرف الخاسر للحرب، دول المحور المكونة من ألمانيا واليابان وإيطاليا، أكثر من 3 ملايين قتيل من المدنيين، وتكبد الطرف المنتصر، الحلفاء، أكثر من هذا الرقم بكثير: إذ لقى نحو ٣٥ مليون مدني حتفهم جراء الحرب، كانت نسبة الضحايا مذهلة، إذ لقي نحو 10 إلى 20 بالمائة من إجمالي سكان الاتحاد السوفييتي وبولندا ويوغوسلافيا حتفهم، وتراوحت النسبة بين ٤ و٦ بالمائة من إجمالي سكان ألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر واليابان والصين، ومثلما يستمر عدد ضحايا هذا الصراع العالمي الطاحن في الاستعصاء على أي جهود إحصائية دقيقة، فإن فداحة الخسائر البشرية التي حصدها تظل بالتأكيد مستعصية على الاستيعاب على نحو صادم بعد مرور جيلين على انقضاء الحرب العالمية الثانية، تمامًا كما كانت عقب انتهاء الصراع مباشرة.
بنهاية الحرب عم الخراب أغلب القارة الأوروبية، وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بكلمات قوية ليست بالغريبة عليه، أوروبا ما بعد الحرب بأنها "كومة من الأنقاض، ومقبرة، وأرض خصبة للأوبئة والكراهية" ووفق تعبير المراسل ويليام شيرر فإن برلين كانت "أرض خراب تام، ولا أظن أن دمارًا وقع من قبل قط على مثل هذا النطاق" في الواقع، عانى كثير من أكبر مدن وسط وشرق أوروبا مستويات مقاربة من الدمار؛ إذ سُوى 90 بالمائة من مباني كولونيا ودوسلدورف وهامبورج بالأرض جراء قصف طائرات الحلفاء، وتهدم 70 بالمائة من المباني الموجودة بوسط فيينا. وفي وارسو، كما نقل لنا جون هيرشي، دمر الألمان المدينة "على نحو منهجي، شارعًا شارعًا، وزقاقًا زقاقًا، ومنزلًا منزلًا. ولم يتخلف شيء سوى هياكل خربة"، وقد كتب السفير الأمريكي آرثر بليس لين، عند دخوله تلك المدينة التي مزقتها الحرب، في يوليو من عام ١٩٤٥ قائلًا: "كانت رائحة اللحم البشري المحترق المثيرة للغثيان تحذرنا من أننا على وشك دخول مدينة للموتى" وفي فرنسا، دُمر خُمس مباني الدولة بشكل كليٍّ أو جزئي، وفي اليونان بلغت هذه النسبة الربع، وحتى بريطانيا العظمى التي لم تُحتل فقد عانت ضررًا بالغًا، تسبب فيه بالأساس القصف النازي، في الوقت الذي خسرت فيه ما يقدر بربع ثروتها القومية على امتداد الصراع.
كانت خسائر الاتحاد السوفييتي هي الأكبر على الإطلاق؛ إذ لقي ما لا يقل عن ٢٥ مليون شخص حتفهم، فيما شُرد ٢٥ مليونًا آخرون، ودُمر ٦ ملايين مبنى، وسويت أغلب مصانع الدولة ومزارعها المنتجة بالأرض.
وعلى امتداد أوروبا، تسببت الحرب في تشريد 50 مليون شخص، أطلق على نحو 16 مليونًا منهم، على سبيل التخفيف، لقب "النازحين" من جانب الحلفاء المنتصرين.
كانت الظروف في آسيا بعد انتهاء الحرب على الدرجة عينها من القتامة، تعرضت المدن اليابانية كافة للدمار بفعل القصف الأمريكي المتواصل، ووصلت نسبة المناطق الحضرية المدمرة على نحو تام إلى 40 بالمائة. تعرضت طوكيو، كبرى المدن اليابانية، لقصف عنيف من جانب قوات الحلفاء حتى إن أكثر من نصف مبانيها سُوي بالأرض تمامًا. أما هيروشيما وناجازاكي فقد لقيتا مصيرًا أبشع حين ألقي على المدينتين قنبلتان ذريتان أنهتا الحرب في المحيط الهادي ومحتا المدينتين من الوجود. شرد نحو 9 ملايين ياباني قبل أن يعلن قادة البلاد الاستسلام. وفي الصين، التي امتدت عليها المعارك لأكثر من عقد، أصاب الخراب منطقة منشوريا الصناعية، وأغرقت مياه الفيضانات مزارع النهر الأصفر. وقُتل نحو أربعة ملايين إندونيسي كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للصراع، وهلك مليون هندي بسبب المجاعة التي سببتها الحرب في عام ١٩٤٣، تبعهم مليونا شخص في الهند الصينية بعدها بعامين. ومع أن السواد الأعظم من جنوب شرق آسيا نجا من أهوال الحرب المباشرة التي حلت باليابان والصين وكثير من جزر المحيط الهادي، فإن مناطق أخرى، كالفلبين وبورما، لم تكن محظوظة بالمثل. فأثناء المراحل الأخيرة من الصراع دُمر 80 بالمائة من مباني العاصمة مانيلا تمامًا أثناء القتال الهمجي. وتسببت معركة مماثلة في وحشيتها في بورما، حسب شهادة القائد الحربي با ماو «في تحويل جزء كبير من البلاد إلى أنقاض».
ولم يتسبب النطاق العريض من الموت والدمار الذي خلفته الحرب في دمار الجزء الأكبر من أوروبا وآسيا وحسب، بل دمر النظام الدولى القديم بالمثل، يقول مساعد وزير الخارجية الأمريكي دين أتشيسون: "إن نظام وبنية العالم الذي ورثناه من القرن التاسع عشر ولَّيَا بالكامل إلى غير رجعة"، في الواقع، إن النظام الدولي المتمركز حول أوروبا الذي هيمن على العالم على مدار الخمسمائة عام الماضية اختفى تمامًا بين عشية وضحاها.
وعوضًا عنه، ظهر للنور قوتان عسكريتان عاتيتان الواحدة منهما في حجم القارة — توصفان بالفعل بأنهما قوتان عظميان — وكلتاهما تعتزم إرساء نظام عالمي جديد يتفق مع احتياجاتها وقيمها، وبينما دخلت الحرب مرحلتها الأخيرة، صار جليًّا لأي مهتم بالسياسة العالمية ولو من بعيد أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يملكان أغلب الأوراق العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية. بيد أن هذين الحليفين اللذين تحولا إلى غريمين اتفقا على هدف واحد؛ ضرورة استعادة مظهر السلطة والاستقرار بكل سرعة؛ ليس فقط بالمناطق التي تأثرت على نحو مباشر بالحرب، بل على مستوى النظام الدولي الأوسع أيضًا. كانت المهمة عاجلة بقدر ما هي ثقيلة، ومن بعدها بدأت الحرب الباردة.