نقرأ معا كتاب "الفن المعاصر: مقدمة قصيرة جدًّا" جتأليف جوليان ستالابراس، ترجمة مروة عبد الفتاح شحاتة، ومراجعة ضياء ورَّاد والصادر عن مؤسسة هنداوى، يناقش الكتاب عالم الفن المعاصر، ويقول "هو عالم من المفترض أن يكون متسعًا للحرية، حيث يصدم الفنانون جماهيرهم، ويخرقون المحظورات، ويتنقلون بين مواجهة الجمهور بأعمال تتدرج من العمق الشديد حتى التفاهة التى تفغر لها الأفواه، ولكن بعيدًا عن الأساليب الصادمة فى المعارض، ثمة أسئلة عديدة فى انتظار الإجابة عليها: مَنْ يدير حقًّا عالم الفن؟ وما التأثير الذى تُخلفه الهيمنة السياسية والثقافية الأمريكية المتزايدة على الفن؟
يقول الكتاب أقيم أول بينالى للفن المعاصر فى ليفربول عام ١٩٩٩، وضم مكوَّنًا دوليًّا، تحت عنوان "اقتفاء الأثر"، وأشرف عليه أنتونى بوند، ووُضعت قطع الفن المعاصر فى مواقع مختلفة حول المدينة، وظهرت أعمال سالسيدو فى الكاتدرائية الإنجيلية.
ماذا يمثل هذا الجمع؟ إن السبعين عامًا التى مرت على تشييد الكاتدرائية شهدت حربين عالميتين، وظهور الراديكالية السياسية وزوالها فى بريطانيا، وتراجع أهمية التصنيع، واكتساح العلمانية للمجتمع؛ فتولَّد المنتج المكتمل بحجم أكبر من المألوف داخل مدينة ناضبة من العمل والسكان والإيمان. إن عمل سالسيدو الفنى — وهو محاولة دقيقة وشاقة لتبجيل الذاكرة — هو النظير المرئى لأعمال إدواردو جاليانو الفذة الخاصة باستعادة الذاكرة السياسية الجماعية فى وجه القمع العنيف للاحتجاج كلمةً أو فعلًا فى أغلب بلدان أمريكا اللاتينية.
بصورة أكثر تحديدًا، كما أوضح تشارلز ميرويزر، ينتقد تجميد الذكرى وكبحها التى يهدف الاختفاء إلى توليدها، فأهل المختفى الحزان ليس لديهم جثمان أو مقبرة أو حتى اليقين بأنَّ حبيبهم توفي. من الناحية البصرية، تلاءمت أعمال سالسيدو الفنية جدًّا مع المساحات الشاسعة الجرداء بالكاتدرائية، فبدت الخزائن ككراسى اعتراف متحولة أو نعوش عملاقة.
إن الغاية من الجمع بين الموقع والعمل الفنى فى مثل هذه المقاربة هو إثراء أحدهما الآخر، والمقاربة بين الثقافات على نحو مثمر، وتحفيز الفكر، والتزويد بلمحة عن تواريخ وثقافات أخرى. ورغم أن وضع أضرحة داخل كاتدرائية أمر ملائم، فقد بدا الجمع بينهما تضاديًّا؛ نظرًا لأن الأنماط الطقسية للذكرى عند سالسيدو تعارضت مع شبح المذهب الإنجيلي، داخل مبنى شُيِّد وكأن شيئًا لم يتغير.
يعد العنوان "اقتفاء الأثر" موضوعًا نمطيًّا لبينالي؛ نظرًا لأنه يمكن أن يتسع ليشمل كل شيء تقريبًا، ومن ثم لا يعنى شيئًا تقريبًا. إن بينالى ليفربول هو فعالية شاملة تستوعب المعارض السنوية الأقدم، منها معرض نيو كونتمبراريز ومسابقة جون موريس للرسم.
إن مدينة ليفربول ملائمة للغاية لمثل هذه الفعالية؛ مدينة تمتلئ بأحواض السفن، اعتمدت ثروتها العظيمة فى السابق على التجارة، بما فى ذلك تجارة الرق، مثَّلت موقعًا ملائمًا لفن يتدبر فى أمر العولمة ووقائعها التاريخية. ونسيجها الحضارى المهترئ الآن به الكثير من المساحات الشاسعة الخالية لعرض الأعمال الفنية، ومناطقها المتهالكة، وجذول الأشجار العائمة التى تناسب التصورات الرومانسية، جاهزة للتحسين والتطوير. كل هذا يهيئ لبعض الفرص المثمرة والاستفزازية لعرض الأعمال الفنية، لا سيما أكياس البهارات المنتفخة لإرنستو نيتو المعلقة فى معرض تيت، والتى تملأ فضاء المكان الذى كان فى السابق مخزنًا لتلك السلع بالفعل بالروائح.
على نحو مماثل، قدم فيك مونيز فى سلسلة "الأثر" أعمالًا عاطفية ومعقدة حول أطفال الشوارع فى مسقط رأسه ساو باولو، فقدَّم للأطفال نسخًا من لوحات لفان دايك وإل جريكو وفيلاسكويز، وأقنعهم بتمثيل الأوضاع، ثم التقط لهم الصور الفوتوغرافية، ثم استخدم هذه الصور بعد ذلك كأساس لصور مفصلة مكونة من النفايات والقصاصات الملونة من النوع الذى يُترك فى الشوارع بعد مرور كرنفال، ومنها تظهر صور تخطيطية للأطفال محاطة بالسكر على نحو طيفي، ثم التقط صورًا فوتوغرافية لها وعرض الصور الضخمة فى المعرض. اكتسبت الصور التى عُرضت فى متحف تيت، الذى يحمل اسم أحد أقطاب تجارة السكر، بُعدًا آخر.