نواصل مع المفكر العربي الكبير جواد على (1907 – 1987) قراءة التاريخ العربي والتعرف على القبائل العربية قبل الإسلام، وذلك من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" وسؤال اليوم: ما الذي نعرفه عن إمارة الحيرة؟
يقول جواد على :
للإخباريين واللغويين وعلماء تقويم البلدان، آراء في أصل اسم "الحيرة"، وبينهم في ذلك جدل على التسمية طويل عريض، كما هو شأنهم في أكثر أسماء المدن القديمة التي بعد عهدها عنهم فحاروا فيها، وإيرادها هنا يخرجنا عن صلب الموضوع، وهي أقوال لا تستند إلى نصوص جاهلية، ولا إلى سند جاهلي محفوظ، ومن أحب الوقوف عليها، وتعرف مذاهب القوم فيها، فعليه بمراجعة تلك المظان، كما أن لبعض المحدثين آراء في هذا الباب.
ومعظم المستشرقين، يرون أنها كلمة من كلمات بنة إرم، وأنها "حرتا" "Harta" "Hirta" "He'rta" "حيرتا" "حيرتو" السريانية الأصل، ومعناها المخيم والمعسكر وأنها تقابل في العبرانية كلمة "حاصير" "Haser"3، وأن "حيرتا" "حيرتو".
في التواريخ السريانية تقابل "العسكر" عند الإسلاميين، وهي في معنى "الحضر" و"حاضر" و"الحاضرة" كذلك، ولهذا زعم بعض المستشرقين أن "الحضر" اسم المكان المعروف في العراق أخذ من هذا الأصل العربي، أي من "الحضر".
وقد عرفت "الحيرة" في مؤلفات بعض المؤرخين السريان، فعرفت بـ "الحيرة مدينة العرب"، "حيرتا دي طياية"، كما عرفت بأسماء بعض ملوكها مثل "النعمان"، فورد "حيرتو د نعمان دبيث بورسويي"، أى: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس".
ويلاحظ أن تعبير "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمان"، تعبير شائع معروف في العربية كذلك، ولابد أن يكون لاشتهار "الحيرة" باسم "النعمان" سبب حمل الناس على نسبة هذه المدينة إليه.
ويرى بعض علماء التلمود أن مدينة "حواطره" "حوطرا" التي ورد في التلمود أن بانيها هو "برعدي" "بن عدي"، هي الحيرة. وقد حدث تحريف في الاسم، بدليل أن التلمود يذكر أنها لا تبعد كثيرًا عن "نهر دعه" "Nehardea"، وأن مؤسسها هو "برعدي"، ويقصد به "عمرو بن عدي".
ويظن أن موضع "حرتت دارجيز" "حارتا دار جيز" "حرته دار جيز"، الوارد في التلمود، هو "الحميرة"، وقد ورد أن "ارحيز" وهو ساحر، هو الذي بنى تلك المدينة، ويرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة بين هذا الساحر وبين قصة "سنمار" باني "الخورنق". وعرفت في التلمود بـ "حيرتا دي طيبه" أيضًا، أي "معسكر العرب" و"حيرة العرب".
وقد ذكر اسم الحيرة في تأريخ "يوحنا الأفسوسي" "Joghn Of Ephesus" من مؤرخي القرن السادي الميلاد "توفي سنة 585م"، فقال: "حيرتود نعمان دبيت بور سوبي"، أي "حيرة النعمان التي في بلاد العرب الفرس"، كما ذكرها "يشوع العمودي" وورد اسمها في المجمع الكنسي الذي انعقد في عام "410 م"، وكان عليها إذ ذاك أسقف اسمه "هوشع" "Hosha" اشترك فيه ووقع على القرارات باسم "هوشع" اسقف "حيرته" "حيرتا".
وقد أشرت في أثناء حديثي عن مملكة "تدمر" إلى ورود اسم مدينتين هما "حيرتا" "الحيرة" و"عاناتا" "عانة" في كتابة يرجع تأريخها إلى شهر أيلول من سنة "132" للميلاد. وقلت باحتمال أن تكون "حيرتا" هذه هي الحيرة التي نبحث فيها الآن. فإذا كان ذلك صحيحًا، كانت هذه الكتابة أقدم كتابة وصلت إلينا حتى الآن ورد فيها هذا الاسم.
ومدينة "Eertha" التي أشار إليها "كلوكس" "Glaucus" و" اصطيفان البيزنطي"، وذكر أنها مدينة "فرثية" "Parthian" تقع على الفرات، هي هذه الحيرة على ما يظن.
وورد في بعض مؤلفات السريان مع "الحيرة" اسم موضع آخر قريب منها هي "عاقولا"، وقد ذهب "ابن العبري" إلى أنه "الكوفة".
وأشار "ياقوت" إلى "عاقولاء" غير أنه لم يحدد موقع هذا المكان.
وقد اشتهرت الحيرة في الأدب العربي بحسن هوائها وطيبه، حتى قيل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة"، وقيل عنها أنها "منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام". وهي على "سيف البادية" ليست بعيدة عن الماء، وقد ورد ذكرها كثيرًا في شعر الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وهي لا تبعد كثيرًا عن "النجف" و" الكوفة".
وقد ذكر "حمزة الأصفهاني" أنه بسبب حسن هواء الحيرة وصحته لم يمت بالحيرة من الملوك أحد، إلا قابوس بن المنذر، أما بقية الملوك، فقد ماتوا في غزواتهم ومتصيدهم وتغربهم، وأنه بسبب ذلك قالت العرب: "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة".
وقد نعتت في المؤلفات الإسلامية بنعوت منها: "الحيرة الروحاء" و" الحيرة البيضاء"، أخذوا ذلك من شعر الشعراء، وزعم بعض أهل الأخبار: أن وصفهم إياها بالبياض، فإنما أرادوا أحسن العمارة.
ويظهر من وصف أهل الأخبار للحيرة أنها لم تكن بعيدة عن الماء وأن نهرًا كان يصل بينها وبين الفرات، بل يظهر أن هذا النهر كان متشعبًا فيها، بحيث كون جملة أنهار فيها. أما نواحيها، فكانت قد بنيت على بحر النجف وعلى شاطئ الفرات، وربما كانت مزارع الحيرة وأملاك أثريائها قائمة على جرف.