جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر معتمدة نوعا من الخداع قدمه نابليون بونابرت للشعب المصرى، لكن الشعب سرعان ما فهم الخدعة وثار ضد الحملة مرة ثانية، واليوم نتوقف مع ثورة القاهرة الثانية.
كيف كانت الظروف زمن قيام الثورة؟
قرر "كليبر" قائد الحملة التفاوض مع "يوسف باشا ضيا" الصدر الأعظم الذي جاء على رأس جيش ضخم لإخراج الفرنسيين من القاهرة، واتفق الطرفان على طريقة تحفظ الكرامة لخروج الجيش الفرنسي وتبقي على شرفه العسكري، وتضمّن الاتفاق طريقة تنظيم جلاء الفرنسيين عن مصر، وتحدد المراحل والأزمنة لتحقيق هذا الجلاء، وأطلق على هذا الاتفاق معاهدة العريش، وأبرمت في (22 من شعبان 1214هـ=24 من يناير 1800م).
غير أن كليبر فوجئ برسالة من قائد الأسطول البريطاني يعلنه أن اللورد كيث القائد الأعلى للأسطول قد رفض التصديق على المعاهدة، وأنه لم يعد أمام الفرنسيين سوى التسليم بلا قيد أو شرط كأسرى حرب، ولا سبيل لعودتهم إلى فرنسا على هذا النحو الذي تم الاتفاق عليه مع الدولة العثمانية.
حينها قرر كليبر البطش بالعثمانيين، فأعاد احتلال المواقع التي كان قد أخلاها، ثم باغت الجيش العثماني المرابط على مشارف القاهرة في المطرية وعين شمس فارتد الجيش العثماني على غير نظام بعد أن كبلت خطاه المفاجأة، وأفقدته القدرة على التوازن وصد.
كيف اندلعت الثورة؟
لم يكن الشعب المصري يحتاج إلى أكثر من إشارة حتى يهب هبة عارمة ضد الغاصب المحتل، لا يبالي بشيء، وفي ساعات قليلة تجمع الشعب وحمل السلاح، وأقام المتاريس حول الأزهر والأحياء المحيطة، وشرع في مهاجمة المواقع الفرنسية في الأزبكية، وكانت نقطة ابتداء الثورة وإعلان الجهاد على الفرنسيين في حي بولاق، ثم امتدت بعد ذلك إلى سائر أحياء العاصمة.
كيف واجه كليبير الثورة المصرية؟
لجأ إلى الاتصال بمراد بك أحد زعماء المماليك، وتفاوض الاثنان على الصلح، وأبرمت بينهما معاهدة بمقتضاها أصبح مراد بك حاكمًا على الصعيد في مقابل أن يدفع مبلغًا إلى الحكومة الفرنسية، وينتفع هو بدخل هذه الأقاليم، وتعهد كليبر بحمايته إذا تعرض لهجوم أعدائه عليه، وتعهد مراد بك من جانبه بتقديم النجدات اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضت لهجوم عدائي أيًا كان نوعه، وكان هذا يعني أن مراد فضل السيادة الفرنساوية على السيادة العثمانية.
ولم يكتف مراد بك بمحاولته في إقناع زعماء الثورة بالسكينة والهدوء، بل قدم للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلمهم العثمانيين اللاجئين له، وأرسل لهم سفنًا محملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحداث الحرائق بالقاهرة.
كيف أخمدت الثورة؟
استمرت الثورة أكثر من شهر، وقائد الاحتلال يفكر في وسيلة للقضاء على الثورة التي يقودها عمر مكرم الذي التف الشعب حوله، وأصبح رمزًا للمقاومة والصمود، وفشلت المحاولات لوقف الثورة، وإزاء ذلك أمر كليبر بالهجوم العام على حي بولاق مصدر الثورة بعد أن جاءته المؤن والمهمات من حليفه مراد بك، وشرعت المدافع تصب نيرانها على الحي الثائر، حتى أحدثت ثغرات في المتاريس التي أقامها الثوار، نفذ من خلالها الجنود الفرنسيون، لإشعال الحرائق في البيوت والمتاجر والوكالات، فاشتعلت النيران في الحي، وسقطت البيوت على من فيها، وتناثرت جثث القتلى، واستمر الضرب بالمدافع حتى دمر الحي بأكمله، ثم تتابع هجوم الفرنسيين على سائر أحياء القاهرة، حيًا حيًا، واستمرت هذه الأهوال ثمانية أيام جرت في أثنائها الدماء أنهارًا في الشوارع، وأصبحت أحياء القاهرة خرابًا بلقعًا.