نواصل مع المفكر العربي الكبير "جواد على" قراءة تاريخ القبائل العربية وعلاقاتها الداخلية والخارجية وذلك من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" واليوم نتحدث عن الشاعر العربي الكبير امرئ القيس بن حجر.
يقول جواد على:
يذكر الأخباريون أن "حجرًا" لم يكن راضيًا عن ابنه "امرئ القيس" فطرده من عنده وآلى ألا يقيم أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طىء وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد، أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره، فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بـ"دمون" من أرض اليمن، أتاه به رجل من بنى عجل يقال له عامر الأعور أخو الوصاف، فلما أتاه بذلك، قال:
تطاول الليل على دمون ... دمون، إنا معشر يمانون
وإننا لأهلها محبون
ثم قال: ضيعنى صغيرًا وحملنى دمه كبيرًا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدًا، اليوم خمر، وغدًا أمر، فذهبت مثلًا ثم قال:
خليلي، لا فى اليوم مصحى لشارب ... ولا فى غد إذ ذاك ما كان يشرب
ثم شرب سبعًا فلما صحا آلى ألا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا ولا يدهن بدهن ولا يصيب امرأة ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك بثأره.
وفي رواية أخرى أنه طرد لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقًا فطلبها زمانًا، فلم يصل إليها، وكان يطلب غرة حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فقال قصيدته المشهورة: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"، فلما بلغ ذلك والده غضب عليه، وأوصى بقتله ثم طرده، وهناك من يزعم أنه إنما طرد، لأنه تغزل بامرأة من نساء أبيه.
هذا وصف موجز لأصغر أبناء "حجر": "امرئ القيس بن حجر الكندي" الشاعر الشهير و"الملك الضليل" و"ذي القروح".
وللرواة أقوال فى اسم "امرئ القيس"، فقد سماه بعضهم "حندجًا"، ودعاه آخرون "عديًّا"، ودعاه قوم "مليكًا" ودعاه نفر "سليمان" وهو معروف عندهم بالإجماع بـ"امرئ القيس"، وهو لقبه، ويكنى بأبي وهب وأبي زيد وأبي الحارث وذي القروح.
ولا نعرف سنة ولادة هذا الأمير الشاعر، ويظن "أوليندر" أنه ولد حوال سنة "500" للميلاد، أما أمه فهي "فاطمة" بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، أخت "كليب" و"مهلهل" التغلبيين، وورد في بيت شعر ينسب إلى هذا الشاعر: "امرئ القيس بن تملك"، وقد استنتج بعض العلماء منه أن أمه هى "تملك" ورجعوا نسبها إلى "عمرو بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب"، ويرى بعض المستشرقين أنه أدخل في ديوان هذا الشاعر، وأنه يعود إلى شاعر آخر اسمه "امرئ القيس"، وقد عد "آلوارت" "ahlwardt"، ستة عشر شاعرًا أسماؤهم "امرؤ القيس".
ويلاحظ أن من زعم من الرواة أن أم امرئ القيس هي "تملك" جعل نسبه "امرأ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور"، وهو: كندة"، وهم يخالفون بذلك سلسلة النسب المألوفة عند غالبية الرواة.
وذكر أنه ولد ببلاد بني أسد، وأنه كان ينزل بالمشقر وهو موضع ذكر في شعره، وروى "ابن قتيبة" أن "امرأ القيس" من أهل نجد، وأن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد، وقد تنقل هذا الشاعر في مواضع متعددة من الجزيرة، ووصل إلى القسطنطينية عاصمة الروم.
وكان امرؤ القيس بـ"دمون" حينما جاء إليه نبأ مقتل والده على رواية، ودمون من قرى حضرموت للصدف في رواية، وفي رواية أخرى مرجعها "الهيثم بن عدي" أن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلامًا قد ترعرع. وكان في بني حنظلة مقيمًا، لأن ظئره كانت امرأة منهم، وقد روت شعرًا زعمت أنه قاله حينما بلغه النبأ، وهو:
أتاني وأصحابي على رأس صليع ... حديث أطار النوم عني فأنعما
قلت لعجلي بعيد مآبة ... ابن لي وبين لي الحديث المجمجما
فقال: أبيت اللعن عمرو وكاهل ... أباحا حمى حجر فأصبح مسلما
ويفهم من هذا أن شاعرنا كان في صيلع حينما أبلغ خبر وفاة والده، أتاه به رجل اسمه "عجل" ويعرف بعامر الأعور.
أما صيلع، فموضع من شق اليمن، كثير الوحش والظباء، ورد اسمه في خبر مجيء وفد همدان إلى الرسول. وقد صرح "ياقوت الحموي" أن به ورد الخبر على امرئ القيس بمقتل أبيه حجر.
ويقول "ابن الكلبى" و"يعقوب بن السكيت" أن امرأ القيس ارتحل بعد أن بلغه نبأ مقتل والده حتى نزل بكرًا وتغلب، فسألهم النصر على بنى أسد، فبعث العيون على بني أسد، فنذروا بالعيون ولجئوا إلى بنى كنانة، ثم أدركوا أن امرأ القيس يتعقبهم، ونصحهم "علباء بن الحارث" بالرحيل بليل، وألا يعلموا بني كنانة، ففعلوا وتركوا "بني كنانة" وارتحلوا عنهم ليلًا دون أن يشعروا.
فلما وصل امرؤ القيس إلى بني كناية ظانًّا بني أسد بينهم، نادى: يا لثارات الملك، يا لثارات الملك: فأخبروه أنهم تركوهم وارتحلوا عنهم، فتعقبهم مع بكر وتغلب حتى لحق بهم، فقاتلهم، فكثرت فيهم الجرحى والقتلى حتى جاء الليل فحجز بينهم، وهربت بنو أسد فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله، ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدًا. قالوا. بلى، ولكنك رجل مشئوم، وكرهوا قتالهم بني كنانة، وانصرفوا عنه، ومضى هاربًا لوجهه حتى لحق بحمير.
وفى رواية يرجعها الرواة إلى "ابن الكلبي" و"الهيثم بن عدى" و"عمر بن شبة" و"ابن قتيبة": أن "امرأ القيس" خرج فورًا بعد امتناع بكر بن وائل وتغلب من أتباع بنى أسد إلى اليمن، فاستنصر أزد شنوءة، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا، فنزل بقيل يدعى "مرثد الحير بن ذي جدن الحميري"، وكانت بينهما قرابة، فاستنصره واستمده على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم، وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له: قرمل بن الحميم، وكانت أمه سوداء، فردد امرؤ القيس، وطول عليه حتى هم بالانصراف ... فأنفذ له ذلك الجيش، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالًا، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بـ"تبالة"، وبها صنم للعرب تعظمه يقال له "ذو الخلصة"، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، وقال: مصصت بظر أمك لو أبوك قتل ما عقتني، ثم خرج فظفر بـ"بني أسد".