نقرأ مع كتاب "علم الأوبئة: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف رودولفو ساراتشى، ترجمة أسامة فاروق حسن مراجعة مصطفى محمد فؤاد، والذى صدرت ترجمته عن مؤسسة هنداوى، ويناقش الكتاب ما المقصود بعلم الأوبئة؟ وكيف يمكننا تتبُّع أسباب أحد الأمراض، أو تحديد متى تفشَّى أحد الأوبئة؟
فى الكتاب يقدِّم رودولفو ساراتشى نظرة متعمقة لمنطق علم الأوبئة ومناهج بحثه، وذلك بهدف توضيح قيمة البحث فى أمور الصحة والمرض فى المجتمعات السكانية.
ويشرح ساراتشى المفاهيم الإحصائية الأساسية اللازمة لتخطيط الدراسات الوبائية وتحليلها، فضلًا عن أنه يطيح بالمفاهيم الخاطئة الشائعة حول تأويل تلك الدراسات، وذلك دون أن يقتصر تركيزه على تَبِعاتها الأخلاقية والسياسية، وإنما يمتد ليشمل تأثيراتها على الصحة العامة.
يقول الكتاب، كلمة علم الأوبئة epidemiology مشتقة من كلمة epidemic (التى تعنى وباء)، المشتقة بدورها من المقطعين اليونانيَّين epi (بمعنى بين) وdemos (بمعنى الناس)، إن أوبئة مثل سارس وهى تهاجم مجتمعًا سكانيًّا فى مظهر غير معتاد لأحد الأمراض تتطلب أبحاثًا فورية، غير أن الأسلوب المتبع فى البحث فى هذه الحالة هو ذاته المطبق على جميع الأمراض بصفة عامة، سواء أكانت غير معتادة فى نمطها أو فى معدل تكرار الإصابة بها أم متواجدة بصورة دائمة فى مجتمع سكانى ما، أى "متوطنة" فيه.
فى حقيقة الأمر، تُستخدم الوسائل نفسها فى دراسة الأحداث الفسيولوجية الطبيعية مثل الإنجاب والحمل، والنمو الجسمانى والعقلى داخل المجتمعات السكانية.
وإيجازًا يمكن القول إن "علم الأوبئة هو علم يدرس الصحة والمرض داخل المجتمعات السكانية."
فالجانب السكانى يعد السمة المميزة لعلم الأوبئة، فى حين أن الصحة والمرض يتم بحثهما على مستويات أخرى كذلك، والحقيقة أنه عندما يشار إلى "الطب"، دونما تحديد، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الطب الإكلينيكى الذى يتعامل مع الصحة والمرض لدى "الأفراد".
وربما مرت بمخيلتنا كذلك صور العلماء فى المعامل وهم يجرون تجاربهم البيولوجية، التى ربما تترجم نتائجها، حسبما نأمل، إلى ابتكارات تشخيصية أو علاجية يجرى تطبيقها فى مجال الطب الإكلينيكي. فى المقابل، نجد أن البعد السكانى للصحة والمرض، ومعه علم الأوبئة، أقل وضوحًا فى أذهان معظم الناس. فى الماضي، عندما كان أحدهم يقدمنى لشخص ما باعتبارى عالم أوبئة، كنت كثيرًا ما توجَّه لى التحية مصحوبةً بتعليق: "إذن أنت متخصص فى علاج الأمراض الجلدية"
(من الواضح أن خلطًا يحدث لتشابه هجاء كلمة علم الأوبئة وعلم الأمراض الجلدية فى اللغة الإنجليزية. أما الآن، فإننى أقدم نفسى باعتبارى أخصائى صحة عامة، وهو ما يكون أكثر وضوحًا.)
ظهرت المقدِّمات الواضحة لعلم الأوبئة المعاصر منذ أكثر من ألفى عام مضت، لا تقدم لنا كتابات الطبيب الإغريقى العظيم أبقراط (الذى عاش تقريبًا فى الفترة من 470 إلى 400 قبل الميلاد) أولى الأوصاف المعروفة والدقيقة والمتكاملة لأمراض مثل التيتانوس، والتيفوس، والسل (الذى صار الآن يعرف باسم الدرن الرئوى) فحسب، وإنما تكشف كذلك عن منهج يقوم على الإدراك والملاحظة فى فهم أسباب الأمراض.
لم يكن أبقراط — مثله مثل علماء الأوبئة المعاصرين — يحصر رؤيته فى الطب والمرض فى مرضاه، وإنما كان يعتبر الصحة والمرض متوقفين على سياق واسع من العوامل البيئية والمتعلقة بأسلوب الحياة.