نشاهد مؤخرا مسلسل الفتوة من بطولة النجوم ياسر جلال وأحمد خليل ورياض الخولى ومى عمر وغيرهم الكثير، وهو ما يذكرنا بزمن الفتوات قديما، ونحن نعرف الفتوات من روايات الكاتب العالمى نجيب محفوظ، وصارت لدينا صورة "شعبية" عنهم، بشواربهم المفتولة ومعاركهم الدامية، وقد كان لكل حى فى القاهرة فتوة، فهناك فتوة الجمالية، وفتوة الناصرية، وفتوة بولاق، أما الحسينية فكانت حى الفتوات وفى الإسكندرية يسمون الفتوة "أبو أحمد" أو "أبو الأحمدات"، حسبما يقول كتاب "تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية " لـسيد صديق عبد الفتاح.
وعن بداية هذه الظاهرة كتب أحمد سالم فى مجلة "ذاكرة مصر المعاصرة" يقول: لقد تواجد الفتوة بالفعل فى تراثنا الشعبى العربى، نجده فى سيرة على الزيبق والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة، لكنه يحمل هيئة وصفة واسمًا يناسب هذا الزمان أو ذاك، لقد كان يطلق عليهم فى ذلك العصر بالشطار والعياق، وكانوا يحملون صفات من نسميهم (أبناء البلد)، وغالبًا ما كانوا يؤلفون طوائف لكل منها ميزات خاصة، فهم أشبه بأصحاب مهنة معينة، لقد امتاز هؤلاء الشطار بالحذق والبراعة وخفة الحركة والقدرة على التغلب على الخصم والمناظر بالحيلة والدهاء والذكاء البارع، وقد يحتاجون إلى الجسارة والإقدام أثناء ممارسة ما يسمى (الملاعيب) على الناس دون ضرر أو أذى، فكفاهم أن يعترف لهم المجتمع بالحذق والبراعة، وأهم قاعدة سلوكية عندهم هى الشهامة، فقد صورهم لنا القصص الشعبى أنهم يصونون الحرمة ويعينون الضعيف ويغيثون الملهوف.
ويضيف "ظهر الفتوة بمعناه الحقيقى مع تراخى قبضة الدولة العثمانية على مصر فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، عندما بدأ المماليك يعاودون السيطرة على الأوضاع فى البلاد من جديد، فسادت الفوضى وكثر الهرج والمرج، وكان هؤلاء المماليك يكوَّنون أحزابًا وشيعًا تتقاتل فيما بينها فضلاً عن التعدى على الممتلكات والأحياء، وعدم الأمن مع غياب القانون والردع، ومن هنا بدأت طائفة الفتوات تبرز فى المجتمع، والتى فى صحيح الأمر لم تغب إلا أنها بدأت تأخذ مكانتها وشرعيتها من الأهالى أنفسهم لحماية الأحياء من الاعتداءات الخارجية سواء من المماليك أو غيرهم من البلطجية وقطاع الطرق؛ وذلك لكونهم كما سبق القول يتسمون بمكارم الأخلاق ونصرة الضعيف والمظلوم، فكان الواحد منهم لا يتوانى عن تقديم روحه فى سبيل نصرة الحق.
وبدأ دور هؤلاء الفتوات يتعدى كونهم يحمون الأحياء والشوارع والحارات إلى اشتراكهم فى المواقف الخطيرة التى تمس صالح الشعب وفى المواقف الوطنية، وظهر ذلك جليًّا بالفعل فيما يرويه الجبرتى عن كثرة فرض الضرائب والفردات والإتاوات على الشعب من قبل المماليك فى أواخر عهدهم قبل قدوم الحملة الفرنسية حتى ضاق الناس بذلك وهجروا أعمالهم. ولعل أبرز تلك الوقائع عندما خرج عمال (البرديسي) لجباية إتاوات جديدة من الناس حتى إذا قاربوا حى باب الشعرية خرج نساء الحى وانهلن عليهم ضربًا بالمقشات وهن يرددن (إيش تاخد من تفليسى يا برديسى)، وعندما شاهد ذلك فتوات الحسينية تصدوا للأمر ثم توجهوا إلى بيت القاضى، وطلبوا منه أن يتصدى للبرديسى لوقف الإتاوات، وبالفعل أذعن البرديسى، ومنذ ذلك الوقت اكتسبوا شرعية أكبر وأصبحوا فى موقع القيادة الشعبية والزعامة.
وبالعودة إلى كتاب "تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية " نجده يقول: عندما جاءت الحملة الفرنسية للاستيلاء على "مصر" وتخاذل المماليك فى مقاومة الفرنسيين ونهضت طوائف الشعب تدافع عن كيان البلاد واستقلالها. شارك الفتوات فى هذا مشاركة فعالة، وكان لهم دور مرموق فى المعارك التى التحم فيها الشعب مع المستعمرين فى ثورات "القاهرة" التى تكررت للتخلص من الفرنسيين وطردهم.
"وكان نابليون" يضيق كثيرا بالشغب الذى يثيره هؤلاء الفتوات، وكان يسميهم بـ الحشاشين البطالين، وكان دائما يصدر منشوراته إلى طوائف الشعب المصرى قائلا: إياكم با مصريين وسماع كلام الحشاشين البطالين.