ضرب البلاد العربية والإسلامية على مدار تاريخها العديد من الأوبئة الفتاكة التى حصدت أرواح كثير من الناس، وعاصر الكثير من الشعراء العرب، الطواعين الكبرى التى عانى منها البشر فى المنطقة، وكانت لهؤلاء الشعر تجاربهم التى استلهموها من الأوبئة والطواعين.
وأعادت أزمة تفشى فيروس كورونا المستجد، المسبب للإصابة بمرض "كوفيد-19" ذكريات الأوبئة السابقة التى خلدتها الذاكرة الأدبية العربية فى مؤلفات الشعراء، فالطاعون والشعر تقاطعا فى أكثر من محطة تاريخية ليلهم الألم مخيلة الشعراء.
المتنبى
سمى شاعر العصر العباسي الشهير أبو الطيب المتنبى قصيدته عن الحمى "زائرة الليل" إذ تشتد الحمى فى المساء، ووصف مقاومته للمرض وسعيه لتحقيق آماله، ولم تخل قصيدته من إشارة لكافور الإخشيدى حاكم مصر الذى تسبب فى رحيله عنها.
وشبه المتنبى الحمى بالفتاة الخجولة التى يناجيها بشعره، فقال:
وزائِرَتى كأنَّ بِها حَياءً/ فَليسَ تَزورُ إلاّ فى الظَلامِ
بَذلتُ لها المَطارِفَ والحشايا فعافَتها وباتَت في عِظامى
يَضيقُ الجلدُ عن نفسى وعنها فتوسِعُهُ بأنواعِ السقامِ
كأنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتجرى مَدامِعُها بأَربعة سِجامِ
أراقبُ وقتَها مِن غَيرِ شَوقٍ مُراقَبَةَ المَشوقِ المُستهامِ
ابن الوردى
وكتب ابن الوردى، الذى عاش فى حلب ودمشق وبلاد الشام، واصفاً "الموت الأسود" الذى اجتاح العالم خلال منتصف القرن الرابع عشر من آسيا إلى الشرق الأوسط ثم إلى أوروبا.
ولستُ أخاف طاعوناً كغيرى
فما هو غير إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ، استرحتُ من الأعادى
وإن عشتُ، اشتفتْ أذنى وعينى
علي أحمد باكثير
وفي بداية القرن العشرين، كتب الشاعر المصرى من أصل حضرمى على أحمد باكثير (1910 ـ 1969) عدة قصائد ومقطوعات عن الحمى، منها: "فى حال مرض"، "تضرع على فراش الألم"، "ألمَّت بى الحمى"، "دعينى أيها الحمى"، "الروح الحنون".
دعـيـنــى أيهـا الـحـمـى أجــيــبُ أخـــاً ثغـرالـزمـان بــــه شـنـيــبُ
ومـا أدرى وقـد أوهـنـت جسـمى أأخطـئ فـى مقالـى أم أصـيـب
سـمـاء الـفـكـر إن تـظـلـم بـلـيـل فشمس الشعر يلحقهـا المغيـب
وبـيـن الجـسـم والـفـكـر ارتـبــاط إذا مــا طـــاب ذاك فـــذا يـطـيـب
ولـكـنـى سـأقــدح زنـــد فـكــرى إلـــى أن يستـبـيـن لـــه لـهـيـب
لأمـدح مـن حـوى غـرر المعـالى بـعـيــد خـيـالـهـا مــنــه قــريـــب
نازك الملائكة
تصور قصيدة الكوليرا للشاعرة العراقية نازك الملائكة (1923-2007) ظلال الموت والحزن والمعاناة التى حطمت مصر خلال الأشهر الأخيرة من عام 1947، واعتبر الوباء هو الأكبر من نوعه في مصر خلال القرن العشرين، حيث أسفر عن وفاة أكثر من عشرة آلاف شخص.
وتستحضر الملائكة في قصيدتها صورا حية لعربات تحمل جثثا وللصمت الذي خيّم على الشوارع المصرية، كما تستخدم عبارات عامية للمرض، وتقول:
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ