نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على قراءة التاريخ العربى القديم، وذلك من خلال كتابه المعهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" ونتوقف اليوم مع "وجهاء مكة".
يقول جواد على:
كان أمر مكة إلى وجهاء أمرها، مثل: "بنو مخزوم"، و"بنو عبد شمس" و"بنو زهرة" و"بنو سهم" و"بنو المطلب"، و"بنو هاشم" و"بنو نوفل" و"بنو عدى" و"بنو كنانة" و"بنو أسد" و"بنو تَيْم" و"بنو جمح" و"بنو عبد الدار" و"بنو عامر بن لؤى" و"بنو محارب بن فهر".
وذكر بعض أهل الأخبار، أن الشرف والرياسة فى قريش فى الجاهلية فى "بنى قصى"، لا ينازعونهم ولا يفخر عليهم فاخر، فلم يزالوا ينقاد لهم ويرأسون، وكان لقريش ست مآثر كلها لبنى قصى دون سائر قريش، منها الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والرياسة، فلما هلك "حرب بن أمية"، وكان حرب رئيسًا بعد المطلب، تفرقت الرياسة والشرف فى "بنى عبد مناف"، فكان فى بنى هاشم: الزبير وأبو طالب وحمزة والعباس بن عبد المطلب، وفى بنى أمية: أبو أحيحة، وهو سعد بن العاص بن أمية، وهو "ذو العمامة"، كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له. وفى بنى المطلب: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، و"عبد يزيد" هو "المحض لا قذى فيه" وفى "بنى نوفل": المطعم بن عدى بن نوفل، وفى بنى أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد. وقد كانت النبوة والخلافة لبنى عبد مناف، ويشركهم فى الشورى: زهرة وتيم وعدى وأسد.
وقد اختص "بنو كنانة" بالنسىء، فكان نسأة الشهور منهم، وهم "القلامسة"، وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم فى دينهم، فمكانتهم إذن بين الناس هى مكانة روحية، فبيدهم الفقه والإفتاء.
ومكة وإن كانت مجتمعا حضريا، أهله أهل مدر فى الغالب، غير أنها لم تكن حضرية تامة الحضارة بالمعنى الذى نفهمه اليوم، لأن الحياة فيها كانت مبنية على أساس العصبية القبلية، المدينة مقسمة إلى شعاب، والشعاب هى وحدات اجتماعية مستقلة، تحكمها الأسر، وبين الأسر نزاع وتنافس على الجاه والنفوذ، نزاع وإن لم يقلق الأمن ويعبث بسلام المدينة، إلا أنه أثر فى حياتها الاجتماعية أثرًا خطيرًا، انتقلت عدواه إلى أيام الإسلام.
لقد حاول بعض رؤسائها ووجوهها التحكم بأمر مكة، وإعلان نفسه ملكا عليها، يحلى رأسه بالتاج شأن الملوك المتوجين، ولكنه لم يفلح ولم ينجح، حتى ذكر أن بعضهم التجأ إلى الغرباء، لمساعدتهم بنفوذهم السياسى والمادى والعسكرى فى تنصيب أنفسهم ملوكا عليها، فلم ينجحوا، كالذى ذكروه عن "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"، المعروف بـ"البطريق"، من أنه طمع فى ملك مكة، فلما عجز عن ذلك خرج إلى قيصر، فسأله أن يملِّكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون فى طاعتك، ففعل، وكتب له عهدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش "قيصر" وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة فصاح، والناس فى الطواف: إن قريشا لقاح! لا تملك ولا تملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حى لقاح، لا تدين لملك، فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، ولم يتم له مراده، فمات عند ابن جفنة؛ فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله، وابن جفنة هو عمرو بن جفنة الغسانى.