نقرأ معا كتاب "نيتشه: مقدمة قصيرة جدا" تأليف مايكل تانر، ترجمة مروة عبد السلام، مراجعة هبة عبد المولى أحمد، والصادر عن مؤسسة هنداوى، ويرى الكتاب أن فلسفة فريدريك نيتشه قوبلت بتجاهل شبه تام خلال فترة حياته التى كان فيها سليم العقل، والتى انتهت نهاية مفاجئة ومبكرة بالجنون عام 1889.
ومنذ ذلك الحين، اعتبر نيتشه أيقونة في نظر طائفة عريضة من الأشخاص ذوى الآراء المتنوعة والمتعارضة على نحو مذهل، والذين تتراوح تفسيراتهم لفكره ما بين النظرة اللاعقلانية الشديدة والنظرة التحليلية الصارمة.
ونظرا لما تميز به نيتشه من طابع خاص متفرد وقوة في الأسلوب ودقة في الصياغة، دائمًا ما كانت أفكاره صادمة وتحض على التفكير، ومن السهل على نحو مغر تناول مقتطفات من أعماله.
ويعمد مايكل تانر في هذه المقدمة اليسيرة لحياة هذا الفيلسوف وأعماله إلى دراسة مواضع الغموض العديدة المتأصِّلة في كتاباته.
كما أنه ينسف الأفكار الخاطئة الكثيرة التي نمت وترسخت في السنوات المائة منذ أن كتب نيتشه — في عبارة تنبُّئية — يقول: "لكن الأهم ألا تخلطوا بينى وبين شخص آخر!".
فى كتابه "ما وراء الخير والشر" شدَّد نيتشه مرارًا وتكرارًا على أهمية التقييم اليقظ، فالحياة تعتمد عليه، ولكن كيف يحقق فائدته فى نفس الوقت بوجود الإقرار غير المقيَّد الذى يبدو أحيانًا أنه القيمة الإيجابية الوحيدة، والذى اقترب منه النبلاء كثيرًا من قبل؟
يعود بنا هذا، حسبما يجب أن يحدث، إلى التناقض في "ما وراء الخير والشر" فالحياة من دون ندم أو حنين، على سبيل المثال، تبدو رائعة بطريقة ما.
ومع هذا، كيف لا يندم المرء على الوقت المهدَر والفرص الضائعة والفشل، علاوة على السعادة التى لا يمكن للمرء الاستمتاع بها مجددًا؟ وكيف يمكن للمرء أن يتجنَّب، خلال هذا الندم، الخوض في الكثير من المقارنات والتناقضات، التي هي أسس التقييم؟
ومن الواضح أن النبلاء، أو "الأسياد" الأصليين، ليسوا بالنسبة إلى نيتشه موضوعًا واضحًا للإطراء، وبالمثل، فإن "العبيد"، أولئك الحانقين على الأسياد، من المرجح بدرجة أكبر أن يقدِّموا إجابات مشوِّقة خلال استفساراتهم المجدَّة حول مصادر شقائهم.
لكن الإجابات تزداد تشويقًا، وأى احتمالية للبساطة البطولية تضيع، وبما أنه لا يوجد سؤال سوى ذلك السؤال المفقود، بلا عودة، فإننا البشر اللاحقين الفاسدين يجب أن نتحلَّى بالشجاعة الناتجة عن تأخرنا ونواصل الجدال أينما قادنا.
ولكي نختصر على نحو صارم موضوعات نيتشه الأكثر شيوعًا، يقول: اكتشف العبيد إنهم باتسامهم بقدرٍ أكبر من التهذيب يفوق أسيادهم (وهو عمل غير صعب)، فإنهم يستطيعون ممارسة إرادة القوة بطرق فعَّالة، وإن كانت حقيرة من منظور النبلاء، بل وحتى إلى درجة إقناع الأسياد بقيمهم الخاصة، في نهاية المطاف، وكان هذا هو الارتقاء الحتمى من اليهود المُستعبَدين إلى المسيحية، أعظم انقلاب أخلاقي حدث على الإطلاق، وهذا ما يمكن رصده، من بين العديد من الأمور الأخرى.
في المبحث الثاني، "الذنب"، و"الضمير المتعب"، وما شاكلهما" عندما أدان المسيحيون القيم الدنيوية مثل الكبرياء والرفاهية والرضا تجاه الذات، واستبدلوا بها الاحتشام والتواضع وغيرهما، نجحوا في جعل حكَّامهم بنفس ضآلتهم، ولكن لكي يحققوا هذا غرسوا قيمًا احتوت في داخلها على بذور دمار المسيحية نفسها.