وصلنا مع المفكر العربى الكبير جواد على إلى القرن السادس الميلادى، زمن مجىء الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، فنقرأ معه من كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" كيف كان حال العالم فى هذه الفترة؟
يقول جواد على:
استعرضنا فى الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام، على قدر ما أدى إليه بحثنا، وأسعفتنا عليه الموارد، أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسى، فنستعرض حالة العرب السياسية فى القرن السادس للميلاد بوجه عام.
والقرن السادس للميلاد فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الإمبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224م" أو "226م"، ثم لم تلبث أن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيدٍ لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعال في السياسة العالمية.
وفي هذا القرن أيضًا برزت الأمراض العديدة التي ألمت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنجُ منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له، فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حل بها، ومن هول ما أصيب به بذلك البتر.
وفي النصف الثاني من هذا القرن وُلِدَ الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخى خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي أن أثره قائم حتى الآن، وأنه سيقوم إلى ما شاء الله، وأنه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وأنه بشَّر برسالة قائمة على أن الدين لله، وأن الناس أمامه سواء، لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على آخر، ثم لم يلبث أن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الإمبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد، واستأصل الأعضاء الثمينة من الإمبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله.
وقد ابتلِي هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت فى مشكلاته الكثيرة التى ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكان مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه مُنِيَ العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطًا ومجاعةً وفقرًا في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة.
ولا ريب أن ظروفًا هذه حالتها، لا بد أن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيومًا تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال، وفي ظروف هذه شأنها لا بد أن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصًا مواتية، لا يفرَّط فيها، للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق نائية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم، وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فرارًا من هذا الوضع إلى المدن الكبيرة البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار، فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى أرضين مجدبة؛ نتيجة لهذه الهجرة، ولتراكم الأتربة فى شبكات الرى. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلك حكامًا حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناسًا كان لهم حسٌّ وشعورٌ بما وصلت إليه الحالة، فنادوا بإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون.