تلقيت اتصالا علي التليفون الأرضي في جريدة "العربي" من الكاتب الروائي الكبير بهاء طاهر، كان يوم ثلاثاء وهو اليوم التالي لصدور العدد الجديد من الجريدة الأسبوعية، وكان رئيس تحريرها أستاذنا محمود المراغي.
كنا في عام 1995، وكان في العدد الجديد من الجريدة يحتوي مقال لي علي مساحة نصف صفحة عن روايته الجديدة الرائعة "الحب في المنفي"، ووجدت حفاوة نقدية وجماهيرية كبيرة، وكتب عنها ناقد بحجم وقيمة الدكتور علي الراعي مقالا في الأهرام بعنوان "الحب في المنفي رواية كاملة الأوصاف".. كنت في هذه الفترة أبحث كثيرا عن الروايات التي تعكس حالة الإنكسار للأجيال التي عاصرت أحلام ثورة 23 يوليو 1952، وكنت أعتبر رواية "انكسار الروح" للكاتب الروائي محمد المنسي قنديل نموذجا في ذلك، بالإضافة إلي أعمال علاء الديب" و"رضوي عاشور"، حتي قرأت "الحب في المنفي" في يومين فوجدتها نموذجا روائيا فريدا لهذه الحالة التي أبحث عنها، ومن شدة انبهاري بها كتبت علي الفور مقالي عنها، وحملته إلي أستاذنا القدير الروائي صبري موسي، وكان يتولى رئاسة القسم الثقافي بجريدة "العربي"، وأثني عليه لكنه ظل حبيس الأدراج ثلاثة أسابيع، حتي غادر الجريدة، وتولي بعده لفترة قصيرة الصديق الكبير الأستاذ محمد حماد رئاسة القسم الثقافي، فدفع بالمقال في أول أسبوع له.
شكرني بهاء طاهر في اتصاله علي المقال، وسألني: أين ولدت؟.. أين تعيش؟.. عندك كم سنة؟".. أجبته.. فعلق :"يعني كان عندك عشر سنوات وقت وفاة جمال عبد الناصر "28 سبتمبر 1970"..أضاف:"أنا مهموم جدا بشريحة العمر لجمهور هذه الرواية، واتفاءل كلما وجدت الإقبال عليها من صغار السن الذين لم يعاصروا أحداثها".. سألته :"كيف تستطيع التوصل إلي هذا الفرز؟"..أجاب :"أحاول عن طريق سؤال باعة الصحف كلما مررت عليهم في وسط القاهرة، بالإضافة إلي الاتصالات التي أتلقاها، وجميعها تبشر بأن شريحة واسعة من أجيال في العشرينيات من العمر أقبلت علي قراءتها، والله البلد دي فيها حاجات تحير، في الوقت اللي تحس فيه بالإحباط تلاقي بشائر بالأمل".
طلبت منه أن يتيح لي فرصة اللقاء، فأبلغني أنه سيغادر القاهرة إلي جنيف لمدة أسبوع لإنهاء متعلقاته في سويسرا بعد وصوله إلي سن المعاش، حيث كان يعمل فيها منذ عام 1981 مترجما في المقر الأوربي للأمم المتحدة، وزودني برقم تليفونه للاتصال به بعد عودته ،واستعدادا مني للقائه بعد عودته، ذهبت إلي"دار الهلال" واشتريت أعماله الكاملة وقرأتها لأكتشف سحره الروائي ولغته الشاعرية في "بالأمس حلمت بك" و"أنا الملك جئت" و"شرق النخيل" و"قالت ضحي" و"خالتي صفية والدير".
عاد بهاء من جنيف ليعاود الاتصال بي ليدعوني إلي مشاهدة فيلما وثائقيا عنه يتم عرضه في "أتيليه القاهرة" من انتاج التليفزيون السويسري، وإعداد صديقه الكاتب الروائي جميل عطية إبراهيم الذي كان يقيم في جنيف أيضا..شدد علي حضوري وحفزني قائلا :"فيه مفاجأة لك في الفيلم"، وكانت المفاجأة أن افتتاح الفيلم كان بعرض صورة لمقالي عن"الحب في المنفي" في "العربي" وقراءة فقرات منه، وبعدها بدأت لقاءاتي به في مسكنه بالزمالك وعلي مقهي "الحرية" في "باب اللوق" وحضر إحداها صديقي الكاتب الصحفي الراحل فتحي عامر الذي كان دائم الإلحاح عليِ بالتخصص في الصحافة الثقافية والفنية.
في لقائي الأول به عرف أنني قرأت كل أعماله، فنبهني إلي مجموعته الأولي "الخطوبة" التي لم أقرأها وأهداها لي، وبدأت معه في الحديث عن فترات تكوينه، وقصة اضطراره إلي الهجرة بعد أن ضيقت عليه سلطة السادات العمل في الإذاعة بعد أحداث 15 مايو 1971 ، وكذلك حضور التاريخ في إبداعه، وفي لقاء آخر كان أثناء إذاعة التليفزيون مسلسله "خالتي صفية والدير" عام 1996 والذي لاقي نجاحا هائلا، وأخرجه إسماعيل عبد الحافظ، ولعب بطولته، ممدوح عبد العليم وبوسي وسيد عبد الكريم وحمدي غيث وسناء جميل، وذهبنا إليه في شقته بالزمالك أنا والصديقان ماهر زهدي وسعيد شعيب، وكان علي مكتبه مذكرات الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة التاريخي في عهد عبد الناصر.
في حديثه عن بدايته الأولي، تذكر :"ولدت عام 1935 في أسرة متوسطة الحال انتقلت إلي الفقر بخروج والدي إلي المعاش وموجة الغلاء التي عمت مع الحرب العالمية الثانية.. لم أعرف في طفولتي أي نوع من الترف، كان الترف الأساسي لي ولأخوتي في الجلوس حول موقد النار لمقاومة برد الشتاء، والاستمتاع بحكايات الأم بلهجتها الصعيدية التي لم تتخلي عنها أبدا منذ خروجها مع والدي من قرية الكرنك بالصعيد للاستقرار في الجيزة.. رغم ظروفنا المالية التعيسة إلا أن الإصرار علي التعليم كان الملمح الرئيس الأصيل لهذا الجيل.. لا أنسي أبدا والدي وهو يجلس أول كل شه لعمل ميزانية الأسرة، وضغط المصاريف من أجل تعلمي أنا واخوتي..كان شعور الآباء آنذاك أن التعليم هو السلاح الحقيقي لنا".
يضيف :"ساهمت مكتبة والدي العامرة في تكويني..كانت تشغل حجرتين في المنزل..وشغلت حجرتين في المنزل..أنفق أبي كل أمواله عليها، وضمت كنوز الكتب من تفاسير القرآن الكريم إلي البخاري ومقدمة ابن خلدون، وألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ولم تتضمن كتب أدبية معاصرة، لكن وجدت فيها لسبب لا أدريه مسرحيات شوقي، وكل مجموعات الشوقيات، وكانت مسرحية "مصرع كليوباترا" لشوقي أول كتاب أقرأها فيها".
حول تأثره بالتاريخ في كتاباته الروائية قال :"من المؤكد أن إطلاعي المبكر علي كتب التاريخ أفادني في كتاباتي، لكنها لم تكن أبدا المحور الرئيسي في التقاط رواياتي، هناك عوامل عديدة أخري كذكريات أمي عن قريتها والتي التقطت منها مثلا حكاية الابن الذي احتضن أبيه وقتلا الاثنان برصاص الثأر.. ظلت هذه الحكاية بداخلي حتي كتبتها في رواية "شرق النخيل" ..فالمشاهدة والمعايشة وعوامل أخري تساهم في التقاط مصادر الراوية عندي، والتاريخ هو الخلفية الرئيسية، هو عندي لحظة معاصرة نعيشها لأن مكوناتها في الماضي.. مازلنا نعيش صراع اخناتون مع الكهنة، ويهئ لي أن مصر هي الدولة الأنسب في العالم التي لايموت فيها التاريخ، فشواهده حية وباقية حتي الآن منذ أقدم العصور"
يضيف :"دائما يدور في ذهني حوارا حول لحظات معينة في التاريخ، كما لو كانت لحظة حاضرة بكل تفاصيلها.. كثيرا ما أفكر متسائلا في أحداث الثورة العرابية : ماذا لولم يعمل أحمد عرابي سهرة ليلة معركة التل الكبير؟.. ماذا لو سمع نصيحة محمد عبيد بقتل الخديو توفيق وحده، وسوف يتحمل المسئولية ؟..ماذا عن الشيخ حسن العدوي الذي قال أثناء محاكمته بتهمة التوقيع علي وثيقة خيانة الخديو توفيق:أنا لم أوقع علي الوثيقة، لكنها لو عرضت عليٍ الآن سوف أوقع عليها ؟..لماذا ترك جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر وكانت النتيجة نكسة 5 يونيو 1967؟..
بعد نحو 13 عاما من أسئلة بهاء، وماذكره فيها حول الثورة العرابية، جاءت روايته "واحة الغروب "عام 2008 التي اتخذت من انكسار الثورة خلفية للأحداث، مثلما اتخذ انكسار ثورة 23 يوليو 1952 خلفية لروايته "الحب في المنفي"، وتميز في الراويتين بلغته الشاعرية الحزينة التي تعبر بصدق عن حالات الانكسار، وكتبت عنها مقالي "بهاء طاهر إن حكي" ونشرته في "المصري اليوم"، فاتصل بي شاكرا وكان في صحبة الصديق الكبير الكاتب الصحفي عبد الله السناوي.. قلت له في هذا اليوم :"الحب في المنفي" كانت حاضرة في ذهني وأنا أقرأ "واحة الغروب" رغم اختلاف الأزمنة، وأفكر في عقد مقارنة بينهما، فعبر عن اندهاشه قائلا :"دي فكرة جديدة خالص".. أنجزت الدراسة ونشرتها في كتابي "ذكريات عشناها وأحلام مشيناها"