نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على قراءة التاريخ العربي قبل مجيء الإسلام، وذلك من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" واليوم نتوقف عند معنى "القبيلة".
يقول جواد على:
القبيلة هى عماد الحياة فى البادية، بها يحتمى الأعرابى فى الدفاع عن نفسه وعن ماله، حيث لا "شُرَط" فى البوادى تؤدب المعتدين، ولا سجون يُسجن فيها الخارجون على نظام المجتمع، وكل ما هناك "عصبية" تأخذ بالحق و"أعراف" يجب أن تطاع.
والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو "النسب"، ويفسر ذلك بارتباط أبناء القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد وبصلب جد أعلى، من صلبه انحدر أفراد القبيلة فى اعتقادهم، ولهذا نجد أهل الأنساب يرجعون نسب كل قبيلة إلى حد أعلى، ثم يرجعون أنساب الجدود، أى: أجداد القبائل إلى أجداد أقدم، وهكذا حتى يصلوا إلى الجدين العرب: قحطان وعدنان.
وقد حفظت الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد كبير من القبائل، لم يعرف أسماء أكثرها أهل الأخبار، وهي تفيدنا من هذه الناحية فائدة كبيرة فى الوقوف على هذه القبائل، وبعضها كان قد هلك وانحلَّ واختلط فى القبائل الأخرى قبل الميلاد وبعضها بعد الميلاد وقبل الإسلام بأمد.
وتتألف القبيلة من بيوت، يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة، وباختلاف المواسم، ففى مواسم الربيع، تضطر أحياء القبيلة إلى الانتشار والابتعاد، لتتمكن إبلها من الرعى ومن إملاء بطونها بالعشب، فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمائة والخمسين بيتًا، أما فى المواسم الأخرى، حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالى "500" بيت أو أكثر، تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر.
والقبيلة فى عرف علماء اللغة: جماعة من أب واحد، والقبائل فى نظرهم من قبائل الرأس لاجتماعها، أو من قبائل الشجرة وهي أغصانها، فهى إذن جماعة من الناس تضم طوائف أصغر منها، وهى تنتمى كلها إلى أصل واحد، وجذر راسخ، ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة، فالرابط الذى يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو "الدم"، أى النسب، والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية، والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابى، حيث لا يشاهد حكومة أخرى فوقها، وما تقرره حكومته هذه من قرارات يطاع وينفذ، وبها يستطيع أن يأخذ حقه من المعتدى عليه.
وهذه النظرة الخاصة بتعريف القبيلة، هى التى حملت أهل الأنساب والأخبار على إطلاق لفظة "القبيلة" على الحضر أيضًا، مع أنهم استقروا وأقاموا، فقريش عندهم قبيلة، والأوس والخزرج قبيلة، وثقيف قبيلة، ذلك لأن هؤلاء الناس وإن تحضروا واستقروا وأقاموا وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالانتساب إلى جد أعلى وإلى أحياء وبطون، وفي إجابة النخوة والعصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة، فعدوا في القبائل، وإن صاروا حضرًا وأهل قرار، وقد طلقوا التنقل وانتجاع الكلأ.
وتشارك الشعوب السامية العرب في هذه النظرة، لأن نظامها الاجتماعى القديم هو كالنظام العربي قائم على القبيلة، والقبيلة عندها جماعة من بيوت ترى أنها من أصل واحد، وقد انحدرت كلها من صلب جد واحد. فهم جميعًا أبناء الجد الذي تتسمى به القبيلة، وهم مثل العرب في النداء وفي النسب، قد يذكرون الاسم فقط، فيقولون مثلًا: أدوم ومؤاب وإسرائيل ويهوذا، أو أبناء إسرائيل وأبناء يهوذا، وبنو إسرائيل وبنو يهوذا، وقد يقولون: بيت إسرائيل وبيت يوسف وبيت خمرى وبيت أديني بمعنى أبناء المذكورين، تمامًا كما نقول: غسان، وآل غسان، وأبناء غسان، وأولاد غسان، ومن غسان، وغسانى، وما شاكل ذلك، ويريدون بها شيئًا واحدًا، وهو النسب، أي: الانتماء إلى جد واحد، به تسمى القبيلة وإليه يرجع نسبها.