كان مشهد المصلين فى المساجد وحتى فى الساحات والميادين جزءا أساسيا من الصور الإسلامية، لكن مؤخرا بسبب فيروس كورونا تعطلت الجوامع، وتم إلغاء صلوات الجماعة، منعا للاختلاط ونقل العدوى بين المصلين، ولعل أمر خلو المساجد الكبرى، مثل المسجدين الحرام والنبوى، والمسجد الأقصى، والجامع الأزهر، لهو أمر محزن لجميع المؤمنين.
وتوقف الشعائر الدينية بشكلها الحالى ليس جديدا، فالأوبئة والطواعين على مدار تاريخها أثرت بشكل كبير على إقامة الشعائر الدينية، وبسبب انتشار الوباء خلت المساجد من المصلين، وتعطلت الجمع والجمعات، لكن الفرق أن قديما الناس قاموا بذلك بدافع حماية أنفسهم ولم ينتظروا قرارات الحكومات.
وقد ذكرت كتب التاريخ الإسلامى تعطيل المساجد بسبب الأوبئة مرارًا؛ يخبرنا ابن عذارى المراكشى (ت 695هـ) فى "البيان المغرب فى أخبار الأندلس والمغرب" أنه وقع فى تونس وباء عظيم سنة 395هـ، فتسبب في "شدة عظيمة انكشف فيها الستور، وغلت الأسعار، وعدم القوات، وهلك فيه أكثر الناس من غنى ومحتاج، فلا ترى متصرفا إلا فى علاج أو عيادة مريض أو آخذا فى جهاز ميت، وخلت المساجد بمدينة القيروان".
ولم يسلم من ذلك مكة المكرمة نفسها والبيت الحرام، فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -فى كتابه "إنباء الغمر بأبناء العمر" ضمن وقائع سنة 827هـ، فقال: "وفى أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات فى كل يوم أربعون نفساً، وحصر من مات في ربيع الأول ألفاً وسبعمئة، ويقال إن إمام المقام (مقام إبراهيم وكان أتباع المذهب الشافعى يقيمون عنده صلواتهم) لم يصل معه فى تلك الأيام إلا اثنان، وبقية الأئمة من المذاهب الأخرى بطلوا الصلاة لعدم وجود من يصلى معهم".
وفى الأندلس ذكر الإمام الذهبى فى "تاريخ الإسلام" أحداث سنة 448هـ فقال "وفيها كان القحط العظيم بالأندلس والوباء، ومات الخلق بإشبيلية بحيث إن المساجد بقيت مغلقة ما لها من يصلى بها"، وذكر أيضا فى "سير أعلام النبلاء"، أنه فى هذه السنة "كان القحط عظيما بالأندلس، وما عهد قحط ولا وباء مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مصل، وسمى عام الجوع الكبير".
وفى سنة 449هـ ذكر ابن الجوزى تفاصيل فظيعة عن وباء عظيم سريع الانتشار والقتل، تفشى فيما يعرف اليوم بآسيا الوسطى وأفنى فيها نحو مليونين من البشر، ثم انتشر غربا حتى قارب أرض العراق؛ فيقول "وفي جمادى الآخرة (سنة 449هـ) ورد كتاب من تجار ما وراء النهر بأنه قد وقع فى هذه الديار وباء عظيم مسرف زائد عن الحد، حتى إنه خرج من هذا الإقليم فى يوم واحد ثمانية عشر ألف جنازة، وأحصى من مات إلى أن كُتب هذا الكتاب فكانوا ألف ألف وستمئة ألف وخمسين ألفا".
وبمصر انتشر الطاعون الكبير الذى وقع سنة 749هـ وعرف في أوروبا باسم "الموت الأسود"؛ وذكر المؤرخ ابن تغرى بردى (ت 872هـ) -فى كتابه "النجوم الزاهرة" مثل ما ذكره المقريزى وزاد عليه بأنه "غلقت أكثر المساجد والزوايا" وفى المقابل، سجلت كتب التاريخ مواجهة الناس للطاعون بالاجتماع فى المساجد والتعبد، فقد جاء في مخطوطة كتاب للقاضى المؤرخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن القرشى الدمشقى الشافعى (توفي بعد 780هـ) بعنوان: "شفاء القلب المحزون فى بيان ما يتعلق بالطاعون"- أنه حدث طاعون كبير سنة 764هـ، فـ"كان الناس به على خير عظيم من إحياء الليل وصوم النهار، والصدقة والتوبة، فهجرنا البيوت ولزمنا المساجد رجالنا وأطفالنا ونساؤنا".