علاقة سيدنا موسى عليه السلام بمصر مثيرة، ودائما فيها قصص وحكايات وتأويلات، منها ما يتعلق ببنى إسرائيل وحياتهم فى مصر، ومن ذلك أيضا علاقة المصريين بسيدنا موسى، هل آمن بعضهم بدعوته.. ما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب "البداية والنهاية" تحت عنوان "هلاك فرعون وجنوده":
لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لله ورسوله وكليمه موسى عليه السلام، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول، وهم مع ذلك لا يرعون ولا ينتهون، ولا ينزعون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل.
قيل: ثلاثة وهم:
امرأة فرعون، ولا علم لأهل الكتاب بخبرها.
ومؤمن آل فرعون.
والرجل الناصح، الذى جاء يسعى من أقصى المدينة فقال: "يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ" [القصص: 30] قاله ابن عباس، فيما رواه ابن أبى حاتم عنه، ومراده غير السحرة، فإنهم كانوا من القبط.
وقيل: بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون، والسحرة كلهم، وجميع شعب بنى إسرائيل، ويدل على هذا قوله تعالى: "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] .
فالضمير فى قوله: "إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ" عائد على فرعون، لأن السياق يدل عليه، وقيل: على موسى لقربه، والأول أظهر، كما هو مقرر فى التفسير.
وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته، وجبروته، وسلطته، ومن ملئهم أن ينموا عليهم إليه، فيفتنهم عن دينهم، قال الله تعالى مخبرًا عن فرعون وكفى بالله شهيدًا: "وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ" أى: جبار، عنيد، مستعل بغير الحق "وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" أى: فى جميع أموره، وشؤونه، وأحواله، ولكنه جرثومة قد حان إنجعافها، وثمرة خبيثة قد آن قطافها، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها.
وعند ذلك قال موسى: "وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" [يونس: 84-86] .
يأمرهم بالتوكل على الله، والاستعانة به، والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجًا ومخرجًا.
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" [يونس: 87] .
أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام، أن يتخذوا لقومهما بيوتًا متميزة، فيما بينهم عن بيوت القبط، ليكونوا على أهبة فى الرحيل إذا أمروا به، ليعرف بعضهم بيوت بعض.
وقوله: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً":
قيل: مساجد.
وقيل: معناه كثرة الصلاة فيها، قاله مجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم النخعي، والربيع، والضحاك، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، وغيرهم.
ومعناه على هذا: الاستعانة على ما هم فيه من الضر، والشدة، والضيق بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ" [البقرة: 45] ، وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى.
وقيل: معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم فى مجتمعاتهم ومعابدهم، فأمروا أن يصلوا فى بيوتهم، عوضًا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق، فى ذلك الزمان الذى اقتضى حالهم إخفاءه خوفًا من فرعون وملائه. والمعنى الأول أقوى، لقوله: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وإن كان لا ينافى الثانى أيضا، والله أعلم.
وقال سعيد بن جبير: { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي: متقابلة.