"كان الإرسالُ ينقطع باستمرارً، فى التليفزيون، بسبب المسيرات والأغانى الوطنية، بينما صوت المؤذن كان يصدح أكثر حزنا، باعثا الهم والحزن فى قلوب المستمعين، لكن القلق الحقيقى لما هو قادم كان فى طريقه.. مأساة الحرب لم نشعر بها على نطاقها الواسع إلا عندما وصلت على بعد أنفاس من بيتنا، صوت انفجار القنابل كان يسمع بوضوح، يصم الآذان، كاد المرء يظن أن المعارك تدور على حدود القاهرة. بعد ذلك سنعرف أن المعارك بالفعل كانت قريبة جدا من المدينة، وأن خطر الحرب قد وصل على بعد عشرات الكيلومترات من القاهرة، رغم تأكيدات مذيع التلفاز على الفوز الوشيك.
الخسائر كانت مفزعة، وكان لها أثر عظيم فى البلاد، حتى أنا، وكنت حينها طفلة صغيرة، شعرت بها كنت أرى والدىَّ منزعجين، وكذلك الأقارب والجيران والبسطاء الذين يمرون فى الشوارع شاردين مذعورين مرعوبين.
فى الحقيقة كان لها أثر فى كل حى فى مصر، ضحايا الحرب كانت أعدادهم مهولة، تقريبا على كل ناصية كان هناك عزاء لبطل شهيد من الشباب الصغار.
الموت بأسوأ وأكثر أشكاله عدائية لم يتأخر أن يدق أبواب منطقتنا، هذا الحى الهادئ فى شارع مراد، حيث إن شابين فى الحى سقطا شهيدين فى تلك الحرب، شابين فى مقتل العمر، لم ألحق أن أتعرف عليهما إلا من خلال صورهما الفوتوغرافية.
لم أعش حدثا فى حياتى أكثر حزنا من هذا، كان حدثا أيقظ بداخلى أحاسيس لم أكن أعرفها من قبل ولم أشعر بها، وكيف كان ممكنا، فى تلك السن الصغيرة؟
صوت المؤذن كان حزينا لمدة أسبوع، حتى إن الدموع كانت تغرق عينى وعيون الأطفال كان الحزن فى الأجواء عارما، لم أشعر بحزن كهذا بعد ذلك، كان يغطى الشارع من ضفته إلى الضفة الأخرى، لا منطقتنا ولا حتى فى الضواحى ولا كل أحياء مصر شعرت بمثل هذه الكآبة ولا عرفت حزنا كهذا من قبل، أنا شخصيا لم أنس هذا الشعور مطلقا طوال حياتي»
هكذا تحدثت الكاتبة اليونانية بيرسا كوموتسى عن هزيمة 1967 فى روايتها التى هى تقريبا سيرتُها الذاتية "فى شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ" الصادرة عن سلسلة الجوائز فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة وتقديم الدكتور خالد رؤوف، وبيرسا كوموتسى ولدت وعاشت شبابها وتعلمت فى مصر وعاصرت الكثير من الأحداث.