نجد دائماً بين التراث الإسلامى والتراث اليهودى أخذا وجذبا، اتفاقا واختلافا، خاصة فيما يتعلق بقصة سيدنا موسى عليه السلام، ومن المشهور فى التراث اليهودى الوصايا العشر التى أوصى الله بها سيدنا موسى عليه السلام، وطلب منه أن يبلغها لبنى إسرائيل، فما الذى قاله التراث الإسلامى فى ذلك.
يقول كتاب "البداية والنهاية" تحت عنوان "فصل فى دخول بنى إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة":
رفص بنو إسرائيل قتال الجبارين، فعاقبهم الله بالتيه، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة، ولم أر فى كتاب أهل الكتاب قصة "نكولهم" عن قتال الجبارين، ولكن فيها:
أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار، وأن موسى وهرون وخور، جلسوا على رأس أكمة، ورفع موسى عصاه، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك، وجعل هرون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس. فانتصر حزب يوشع عليه السلام.
وعندهم: أن يثرون كاهن مدين، وختن موسى عليه السلام، بلغه ما كان من أمر موسى، وكيف أظفره الله بعدوه فرعون، فقدم على موسى مسلمًا، ومعه ابنته صفورا زوجة موسى وابناها منه: جرشون وعازر، فتلقاه موسى، وأكرمه، واجتمع به شيوخ بنى إسرائيل وعظموه وأجلوه.
وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بنى إسرائيل على موسى فى الخصومات التى تقع بينهم، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالًا أمناء أتقياء أعفاء، يبغضون الرشاء والخيانة، فيجعلهم على الناس رؤوس مئين، ورؤوس خمسين، ورؤوس عشرة، فيقضوا بين الناس، فإذا أشكل عليهم أمر جاؤوك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم، ففعل ذلك موسى عليه السلام.
قالوا: ودخل بنو إسرائيل البرية عند سيناء فى الشهر الثالث من خروجهم من مصر، وكان خروجهم فى أول السنة التى شرعت لهم، وهى أول فصل الربيع، فكأنهم دخلوا التيه فى أول فصل الصيف، والله أعلم.
قالوا: ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء، وصعد موسى الجبل، فكلمه ربه، وأمره أن يذكر بنى إسرائيل ما أنعم الله به عليهم، من إنجائه إياهم من فرعون وقومه، وكيف حملهم على مثل جناحى نسر من يده وقبضته، وأمره أن يأمر بنى إسرائيل بأن يتطهروا، ويغتسلوا، ويغسلوا ثيابهم، وليستعدوا إلى اليوم الثالث.
فإذا كان فى اليوم الثالث، فليجتمعوا حول الجبل، ولا يقتربن أحد منهم إليه، فمن دنا منه قتل حتى ولا شىء من البهائم، ما داموا يسمعون صوت القرن، فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه، فسمع بنو إسرائيل ذلك، وأطاعوا، واغتسلوا، وتنظفوا، وتطيبوا.
فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة، وفيها أصوات وبروق، وصوت الصور شديد جدًا، ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعًا شديدًا، وخرجوا فقاموا فى سفح الجبل، وغشى الجبل دخان عظيم فى وسطه عمود من نور، وتزلزل الجبل كله زلزلة شديدة، واستمر صوت الصور وهو البوق، واشتد وموسى عليه السلام فوق الجبل، والله يكلمه ويناجيه.
وأمر الرب عز وجل موسى أن ينزل فأمر بنى إسرائيل أن يقتربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله، ويأمر الأحبار - وهم علمائهم - أن يدنوا فيصعدوا الجبل، ليقدموا بالقرب، وهذا نص فى كتابهم على وقوع النسخ لا محالة.
فقال موسى: يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوه وقد نهيتهم عن ذلك، فأمره الله تعالى أن يذهب، فيأتى معه بأخيه هرون، وليكن الكهنة - وهم العلماء - والشعب - وهم بقية بنى إسرائيل غير بعيد - ففعل موسى وكلمه ربه عز وجل، فأمره حينئذ بالعشر كلمات.
وعندهم: أن بنى إسرائيل سمعوا كلام الله، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى، وجعلوا يقولون لموسى: بلغنا أنت عن الرب عز وجل، فإنا نخاف أن نموت، فبلغهم عنه، فقال: هذه العشر الكلمات، وهي:
الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهى عن الحلف بالله كاذبًا، والأمر بالمحافظة على السبت، ومعناه: تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة، وهذا حاصل بيوم الجمعة الذى نسخ الله به السبت.
أكرم أباك وأمك ليطول عمرك فى الأرض الذى يعطيك الله ربك.
لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور، لا تمد عينك إلى بيت صاحبك، ولا تشته امرأة صاحبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا من الذى لصاحبك، ومعناه النهى عن الحسد.
وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم: مضمون هذه العشر الكلمات فى آيتين من القرآن وهما: قوله تعالى فى سورة الأنعام: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ" الآية [الأنعام: 151- 153] .
وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة، وأحكامًا متفرقة عزيزة، كانت فزالت، وعملت بها حينًا من الدهر، ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها، ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها وأولوها، ثم بعد ذلك كله سلبوها، فصارت منسوخة مبدلة، بعد ما كانت مشروعة مكملة، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو الذى يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، آلا له الخلق، تبارك الله رب العالمين.