هل سمعت عن قبة الزمان، التى بناها سيدنا موسى، حسبما تقول بعض الكتب، فى زمان التيه، لنرى ماذا قال التراث الإسلامى عنها، هل اعترف بها أم أنكرها؟
يقول كتاب البداية والنهاية تحت عنوان "ذكر بناء قبة الزمان":
قال أهل الكتاب: وقد أمر الله موسى عليه السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز، وجلود الأنعام، وشعر الأغنام، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ، والذهب والفضة، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب، ولها عشر سرادقات، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعًا، وعرضه أربعة أذرع، ولها أربعة أبواب، وأطناب من حرير ودمقس مصبغ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة، ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة، وستور من حرير مصبغ، وغير ذلك مما يطول ذكره.
وبعمل تابوت من خشب الشمشاز، يكون طوله ذراعين ونصفا، وعرضه ذراعين، وارتفاعه ذراعًا ونصفًا، ويكون مضببًا بذهب خالص من داخله وخارجه، وله أربع حلق فى أربع زواياه، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب، يعنون صفة ملكين بأجنحة، وهما متقابلان، صنعه رجل اسمه: بصليال.
وأمراه أن يصنع مائدة من خشب الشمشاز، طولها ذراعان، وعرضها ذراعان ونصف، لها ضباب ذهب، وإكليل ذهب بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب، وأربع حلق من نواحيها من ذهب، مغرزة فى مثل الرمان، من خشب ملبس ذهبًا، وأن يعمل صحافًا ومصافى وقصاعا على المائدة.
وأن يصنع منارة من الذهب، دلى فيها ست قصبات من ذهب، من كل جانب ثلاثة، على كل قصبة ثلاث سرج، وليكن فى المنارة أربع قناديل، ولتكن هى وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب، صنع ذلك بصليال أيضًا، وهو الذى عمل المذبح أيضًا، ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم، وهو أول يوم من الربيع.
ونصب تابوت الشهادة، وهو - والله أعلم - المذكور فى قوله تعالى: "إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [البقرة: 248] .
وقد بسط هذا الفصل فى كتابهم مطولًا جدًا، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم، وكيفيته، وفيه: أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذى هو متقدم على مجيء بيت المقدس، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها، ويتقربون عندها، وأن موسى عليه السلام كان إذا دخلها يقفون عندها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجدًا لله عز وجل.
ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام، الذى هو نور، ويخاطبه ويناجيه، ويأمره وينهاه، وهو واقف عند التابوت، صامد إلى ما بين الكروبين، فإذا فصل الخطاب يخبر بنى إسرائيل بما أوحاه الله عز وجل إليه من الأوامر والنواهى، وإذا تحاكموا إليه فى شيء ليس عنده من الله فيه شيء، يجيء إلى قبة الزمان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبين، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة.
وقد كان هذا مشروعًا لهم فى زمانهم، أعنى استعمال الذهب والحرير المصبغ، واللآلئ فى معبدهم وعند مصلاهم، فأما فى شريعتنا فلا، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها، لئلا تشغل المصلين كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لما وسع فى مسجد رسول الله ﷺ للذى وكله على عمارته: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر، فتفتن الناس.
وقال ابن عباس: لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم، وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم، إذ جمع الله همهم فى صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر فى غير ما هم بصدده، من العبادة العظيمة، فلله الحمد والمنة.
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بنى إسرائيل فى التيه، يصلون إليها وهى قبلتهم وكعبتهم، وإمامهم كليم الله موسى عليه السلام، ومقدم القربان أخوه هارون عليه السلام، فلما مات هارون، ثم موسى عليهما السلام، استمرت بنو هارون فى الذى كان يليه أبوهم من أمر القربان، وهو فيهم إلى الآن.
وقام بأعباء النبوة بعد موسى، وتدبير الأمر بعده: فتاه يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذى دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتى بيانه، والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلتها، وهى الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله ﷺ.
وقد صلى إليها رسول الله ﷺ قبل الهجرة، وكان يجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فصلى إليها ستة عشر - وقيل: سبعة عشر شهرًا - ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهى قبلة إبراهيم، فى شعبان سنة ثنتين فى وقت صلاة العصر، وقيل: الظهر، كما بسطنا ذلك فى التفسير عند قوله تعالى: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا.. } إلى قوله: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... } الآيات [البقرة: 142-144 ومابعدها] .