عاش بنو إسرائيل جانبا كبيرا من حياتهم فى عناد مع كل شيء، يطلبون الشيء من الله فيعطيهم فيعاندونه ويجادلونه، ومن ذلك قصة "طالوت"، فقد طلبوا ملكا يقاتلون تحت إمرته فلما اختار الله لهم "طالوت" رفضوا.. لكن ماذا يقول التراث الإسلامى عن "طالوت"؟
يقول كتاب البداية والنهاية فى هذه القصة:
قال الثعلبى: هو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
قال عكرمة والسدى: كان سقاء، وقال وهب بن منبه: كان دباغا، وقيل غير ذلك فالله أعلم.
ولهذا: "قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ" وقد ذكروا أن النبوة كانت فى سبط لاوى، وأن الملك كان فى سبط يهوذا، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا فى إمارته عليهم، وقالوا نحن أحق بالملك منه، وقد ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه، فكيف يكون مثل هذا ملكا؟
"قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ" قيل: كان الله قد أوحى إلى النبى "شمويل" أن أى بنى إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا، وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذى فيه من دهن القدس، فهو ملكهم، فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا، فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت.
ولما حضر عند "شمويل" فار ذلك القرن، فدهنه منه وعينه الملك عليهم، وقال لهم: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ" قيل: فى أمر الحروب، وقيل: بل مطلقا، (وَالْجِسْمِ) قيل: الطول، وقيل: الجمال. والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام "وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ" فله الحكم وله الخلق والأمر "وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".
"وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم، أن يرد الله عليهم التابوت الذى كان سلب منهم، وقهرهم الأعداء عليه، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه.
"فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ" قيل: طشت من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء.
وقيل: السكينة مثل الريح الحجوج.
وقيل: صورتها مثل الهرة إذا صرخت فى حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر.
"وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ" قيل: كان فيه رضاض الألواح وشيء من المن الذى كان نزل عليهم بالتيه.
"تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ" أى: تأتيكم به الملائكة يحملونه، وأنتم ترون ذلك عيانا، ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم ولهذا قال: "إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ".
وقيل: إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة.
قيل: كان فيه التوراة أيضا، فلما استقر فى أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم، فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته، فلما كان اليوم الثانى إذا التابوت فوق الصنم، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه من بلدهم، وجعلوه فى قرية من قراهم، فأخذهم داء فى رقابهم، فلما طال عليهم هذا جعلوه فى عجلة، وربطوها فى بقرتين وأرسلوهما.
فيقال: إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملأ بنى إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك، فالله أعلم على أى صفة جاءت به الملائكة، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم بالجنود من الآية، والله أعلم.
وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم "فَلَمَّا فصل طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ".
قال ابن عباس، وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن، وهو المسمى بالشريعة، فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبى الله له، عن أمر الله له اختبارا وامتحانا، أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبنى فى هذه الغزوة، ولا يصحبنى إلا من لم يطعمه إلا غرفة فى يده. قال الله تعالى: "فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ".
قال السدى: كان الجيش ثمانين ألفا، فشرب منه ستة وسبعون ألفا، فبقى معه أربعة آلاف، كذا قال.
وقد روى البخارى فى صحيحه من حديث إسرائيل، وزهير، والثورى، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد ﷺ نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن.
وقول السدى: إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه نظر، لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفا، والله أعلم.
قال الله تعالى: "فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ" أى: استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم.
"قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" يعنى: بها الفرسان منهم. والفرسان: أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.
"وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر، أى يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم فى مجال الحرب ومعترك الأبطال، وحومة الوغى والدعاء إلى النزال، فسألوا التثبت الظاهر والباطن، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم، وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا، وأنالهم ما إليه فيه رغبوا.
ولهذا قال: "فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ" أى: بحول الله لا بحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [آل عمران: 123] .