تمر اليوم ذكرى الشاعر العربى الكبير أمل دنقل فى 23 يونيو من عام 1940 والذى استطاع خلال عمره القصير أن يترك بصمة خالدة على الشعر العربى، كما كانت حياته أيضا صاخبة، ومن هذا ما قاله عنه الكاتب الكبير سليمان فياض فى كتابه "بورتريهات .. ألاعيب الذاكرة" ومن ذلك حديثه عن أمل دنقل ومقهى ريش.
يقول سليمان فياض "سبقنى أمل إلى القاهرة، لا أعرف متى هبط إليها، ولا متى ترك عمله كموظف حكومى معين. رأيته أمامى بكافيتريا ريش، جالس مع السيدين: خميس وموسى، يرتشفون ماء ذهبيا غير قراح.
ويتداولون أخبار النميمة ، السارية فى المدينة، بدواوين الثقافة، ومقاهى الأدب، وبارات المثقفين والفنانين في وسط القاهرة، من ميدان رمسيس إلى ميدان التحرير، ومن شارع رمسيس إلى ميدان عابدين، وظلوا على هذه الحال إلى أواخر سنوات السبعينيات.
كل مساء، كان أمل يفد إلى ريش، قبيل الغروب، مستحما، حليق الذقن، ومعه كومة من صحف الصباح والمساء والمجلات اللبنانية، أراه إذا بكرت بالحضور يحتسى فنجان قهوته، وفى يده قلم رصاص، منكبا بظهره ورأسه على الكلمات المتقاطعة بالصحف والمجلات، صحيفة بعد صحيفة، ومجلة بعد مجلة، يفك فوازيرها كلها، بسرعة ومهارة، وكلما انتهى من صحيفة أو مجلة يضعها فوق مقعد شاغر بجانبه، ويسحب سواها من فوق منضدة الحديد والرخام. ثم يروح يتصفح عناوينها واحدة واحدة، ولا يتوقف إ نادرا عند خبر أو مقال أو قصيدة، أو حوار مشاغب مع شاعر من شعراء الأمة فى أقطار العرب. ثم يزعق فى النهاية مناديا ملك الجرسون، ويقول له:
خذها كلها. أرحنى منها.
ونادرا ما كان أمل يأتى فى النهار صباحا أو ظهرا أو مع العصر، كان الليل ساحته الأثيرة للسهر ولقاء الأصدقاء، ولا يرحل عائدا إلى بيته من وسط المدينة ومشاربها إلا مع الفجر، وربما عند شروق الشمس، حين يصحو النيام ويبدأ الزحام. بيته الذى لا أعرف قط أين هو، كما لم أعرف أبدا من أين يعيش، ولا من أين يأتى بنقوده القليلة لطعامه وشرابه وصحفه ومجلاته. ولم أسأله قط هيبة له، فهو من الذين يحبون أن يحتفظوا بخصوصياتهم، لا يشكون، ولا يتباكون، ولا يتباهون، ويتعففون عن الدنايا، وإظهار الاكتئاب، والشعور بالغربة، والوحدة والضياع، كعادة أكثر المثقفين الصغار المحبطين، الباحثين أبدا عن شماعات يعلقون عليها ثمار كسلهم،وزهدهم فى العمل، مع السلطة وغير السلطة.