نواصل قراءة مشروع الكاتب المصرى الكبير محمد حسين هيكل (1888 – 1956) الذى قدم عددا مهما من الكتب الثقافية التى شكلت وعى المصريين والعرب فى النصف الأول من القرن العشرين، واليوم نتوقف عند كتابه "فى أوقات الفراغ" الذى يتحدث فيه عن عدد من الشخصيات وأفكارهم، فما الذى قاله عن "قاسم أمين".
ما قاله عن "قاسم أمين"
لم تتح لى معرفة قاسم أمين على قرب عهدنا به، وكل ما كنت أعرفه عنه مظاهره فى الحياة ككاتب وكقاضٍ، على أن هذه المظاهر كفت لتحل الرجل من نفسى مكانًا جمع بين الإجلال والمحبة، فلما وافته منيته فى سنة 1908 شيَّعته إلى مقر وفاته وفى القلب لوعة حزن وأسى وحسرة.
لكن إنعام النظر فى صورة الرجل والتدقيق فى ما كتب وفى ما ذكره عنه من عرفوه، ومقارنة ذلك كله بعضه ببعض تحيى فى النفس منه صورة مضبوطة تجعله أمام المخيلة حيًّا جالسًا فى هدأته العصبية الحزينة تؤثر فيه الحوادث جميعها دقيقها وجليلها من جهات العواطف والإحساس أولًا، ومن جهة الفكر المنطقى البحت بعد ذلك، وتستدعى منه ملاحظات عصبية هى الأخرى، ولكنها بعيدة عن ذلك التهيج الذى يلزم فى أحيان كثيرة جماعة الكتاب العواطفيين. فإذا هو توترت أعصابه أمام تكرر المشاهد والمناظر، وأمام جمود المحيطين به دون التأثر بما يراه هو ويلاحظه، ترك الناس إلى وحدته آملًا أن يجد فيها من الطمأنينة والسكون ما يرد إليه هدأته، وكذلك تبقى هاته الحال العصبية تتناوبه حتى تدفعه ليكتب أجمل ما فى كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، وليحفظ فى أوراقه الخاصة بعض كلمات بديعة أظهرتها الظروف بعد وفاته.
وكانت هذه الحالة العصبية المحتوية نفسها مرتبة حياته الخاصة، كما كانت مصدر أعماله جميعًا. كانت منبع سعادته ولذته وأمله، وسبب آلامه ومتاعبه، ومصدر كتاباته وأفكاره، وأساس أحكامه وقضائه، فكأنما كانت أعصابه أوتارًا تتأثر بملامسة الحوادث تأثرًا سريعًا ينقل إلى نفسه الإحساسات المختلفة، وينقل إلى الخارج مظاهر هذه الإحساسات على النظام الذى تعطيها إياه قوة ملاحظته الحادة الدقيقة.
عاش قاسم أمين حياة لم تتخللها حادث غير عادى يجعل لها صبغة غير مألوفة. دخل المدارس فى مصر ثم سافر مع إرسالية الحكومة إلى فرنسا، فلما عاد منها اشتغل فى وظائف قضائية انتهت به إلى منصب مستشار فى محكمة الاستئناف الأهلية، وبقى فى هذا المنصب حتى آخر حياته.
لكنه مع ذلك لم يكن الشخص العادى فى أى طور من هذه الأطوار، فلقد امتاز فى فرنسا بحدة فى الذهن لفتت إليه أساتذته، وإنى لأذكر الساعة يومًا كنت فيه مع الأستاذ "لرنود" أحد أساتذة كلية الحقوق فى باريس، ومال بنا الحديث إلى المصريين فذكر لى قاسم بشىء من الإعجاب ملأنى كمصرى غبطة، وكمعجب بقاسم سرورًا، أن شاركنى فى إحساسى عالم كبير، كما أنه امتاز فى القضاء بحسن ذوق غير متعارف، وبدقة فى التقدير أكسبته ثقة زملائه وعطفهم. كذلك لم يشاركه فى حياة مصر العامة مشارك، لم يقم معه قائم بمبدأ جديد بتلك الثقة بالنفس وهذه القوة فى العقيدة، وهذا الامتياز فى درجات الحياة التى مر بها راجع إلى حالته النفسية، إلى تلك الحال العصبية الحساسة.
فلم تكن تقابله مسألة مهما تكن من البساطة إلا تأثر بها وارتسمت فى مخيلته، واستدعت منه النظر والفكر واهتزت نفسه لها؛ فتلك امرأة محجوبة تسير فى شارع الدواوين مبرقعة كما يسير آلاف غيرها، ولكن يظهر من هيئتها أنها من عائلة كبيرة، فنرى عيون قاسم الواسعة تحدق بها، لماذا؟ لأن إحساساته تأثرت، ونفسه تغيرت، أن رآها "تمشى خطوات مرتبة يهتز معها جسمها مائجًا كما تفعل الراقصة على المسرح، وتخفض جفونها بحركة بطيئة وترفعها كذلك، وترسل إلى المارة نظرات دعابة ورخاوة واستسلام يجعل مجموعها تحريضًا مهيجًا لحواسهم"، هذا هو أثر حى أمامه من آثار الحجاب الذى يحار به، وهذه هى الصورة التى يدَّعى خصومه أنها مثال ذلك النظام الذى وضعته العادة محافظة على العفة. أفلا يرى الناس هاته المرأة أمامهم تكذِّب كل ما يزعمون؟
وتلك بعض الحوادث فى عمل القضاة لا تتفق مع وجدانه وضميره؛ حوادث يأتيها بعض زملائه لسبب قد يعرفه وقد لا يعرفه؛ قضايا يحكمون فيها أحكامًا لا تتفق مع المألوف، فإذا كان لا يستطيع أن يعين هذه القضايا، فإنه يعجز عن أن يسكت نفسه دون أن تصيح: "أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل".
ويتوفى صاحب اللواء وتمر جنازته فى الشوارع، ويشهدها قاسم ويرى تلك الجموع الحاشدة التى تسير فيها جامعة مختلف طبقات الأمة وأهالى بلادها المختلفة، مظهرة اتحادًا فى الشعور، فتهتز أعصابه وتمتلئ بالأمل نفسه المحزونة، ويرى أن "الإحساس الجديد، هذا المولود الحديث الذى خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذى يبتسم فى وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذى يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل".
وكانت هذه الهزات العصبية تترك فى نفسه صورًا مضبوطة من الحوادث أو المظاهر التى أنتجتها؛ فالمرأة التى رأى فى شارع الدواوين "طويلة القامة ممتلئة الجسم عمرها بين العشرين والثلاثين فى وسطها حزام جلد مشدود على خصر رفيع … وعلى وجهها قطعة من الموسلين الرقيق أقل عرضًا من الوجه تحجب فاها وذقنها حجابًا لطيفًا شفافًا … وتترك الحواجب والجبهة والشعر والرأس إلى منتصف الشعر مكشوفة".
وقد رأى مدة وجوده فى فرنسا طفلًا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبه على فرقة من العساكر الفرنسوية وهى عائدة من حرب التونكين، "فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام، ورفع قبعته وحيَّا العلم وصار يتابعه بنظره حتى غاب عنه". أمام هذه الصورة المضبوطة من جاره وحركاته أحس قاسم "أن الوطن تجسم لهذا الطفل فى العلم الذى مر أمامه، وأثار فيه جميع الإحساسات التى بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خاله رجلًا كاملًا"، وصورٌ غير هاتين كثيرة يمر بها من يقرأ ما كتب قاسم؛ صور حية ناطقة بما تحوى منبئة باهتزاز روح واضعها وتأثره.