نواصل مع الكاتب المصرى محمد حسين هيكل (1888 – 1956) قراءة مشروعه الفكرى الذى ظهر من خلال عدد من الكتب المهمة، التى شكلت أفكار الكثير من القراء والمثقفين فى مصر، ونتوقف اليوم مع كتابه "مذكرات الشباب" يصف أول رحلة له خارج مصر فى الطريق إلى باريس.
يقول "محمد حسين هيكل" فى الكتاب:
7 يوليو 1909
هذه أول مرة فى حياتى أضع فيها قدمى على غير أرض مصر.
لم نكد نصعد فوق سطح الباخرة حتى كُنَّا وسط لجة لا حدَّ لها من المسافرين والمودعين لا تميز العينُ بينهم هؤلاء من أولئك، كلهم رجال وشبان على وجه الأكثرين منهم أثر الجد والاهتمام، فى حين تقرأ فى عيون الآخرين حزنًا عميقًا ويمسحونها بمناديلهم من وقت لآخر، ومن الشبان من يضحكون غير مبالين، وفى كل لحظة ترى إلى جانبك اثنين يتقابلان ويتصافحان، ويقبل عليك الوقت بعد الوقت صديقٌ لم تره من أيام أو من سنين، فيهز يدك هزة قوية ويسألك إن كنت مسافرًا أو مقيمًا، ومتى علم أنك مسافر جعل يشجعك ويظهر من ثقته بك وبقوة عزيمتك، فتبسم أنت لأنك لا تعلم ما تجيبه به.
عن جانبنا شاب وقف معه من جاء يودعه، عشرة أشخاص أو أكثر، ومن بين هؤلاء رجل ظاهر الجزَع لا يستطيع رغم شعوره المبيضة أن يحجز دمعته على أن تسيل على خده الناشف الشديد السمرة، تدل حمرة جفونه على أنه كان يبكى من قبل، ويكفى منظره ليستدر القلب رحمة به ويسعى من حوله لتعزيته، فلا ينفع معه شيء ولا يتعزى، كأنه يرى فى الخضم الهائل أمامه مختبئًا ملك الموت ينتظر العزيز الذى يفارقه … والناس يسيرون فى كل جانب من جوانب المركب وإلى كل الجهات ينظرون فى كل الوجوه يريدون أن يقولوا كلمة وداع لمن يعرفون، والكلام والضحك والبكاء ووصايا الآباء والإخوان وضجة الحمالين وأصوات الصائحين ورج الآلات الرافعة جوف المركب، كل ذلك مخلوط بعضه ببعض يترك الحواس والقلب والنفس فى حيرة واندهاش، فإذا قلبت عينيك فيما حولك أزددت حيرة لا ينجيك منها إلا محدث ممن معك يقف إلى جانبك، فإما كان رجلًا فألقى إليك بنصائح، وإما شابًّا من أصدقائك صامتًا يحدق بك كأنما يريد أن يملأ عينيه من صورتك التى تتغيب عنه الزمان الطويل …
ارتفع فى الجو صفير الباخرة تعلن المودعين ليذروها، فى تلك الساعة هاج الناس وماجوا وجعل كلٌّ يقول لصاحبه الكلمات الأخيرة.
سلم على إخوانى الشبان ثم وقفوا جانبًا، وجعل أهلى وإخوانى يُقَبِّلوننى قبلة الوداع ويقولون لى "مع السلامة وإن شاء الله نسمع عنك كل خير"، ولكن رجلًا من بينهم طالما عرفنى لم يستطع أن ينطق بكلمة إلا دمعة ذرفها وقبلة وضعها على صدغى ثم هز يدى وسار.
جعلتْ الباخرة تخلو من المودعين قليلًا قليلًا، وسلمها الخشبى الضيق مزدحم بهم يقذفهم للشاطئ وهم يتتابعون فوقه، وأخيرًا أصبح السلم هو الآخر خلاء ورفعوه إلى الباخرة.
اصطف المودعون على الشاطئ وجع لكل منهم يبعث لمن يعرف نظرة أو ابتسامة، ثم تحركت المركب بحركة بطيئة وأخرج الناس من جيوبهم مناديلهم يشيرون بها فى الهواء ويتنادون: "مع السلامة"، ثم ابتدأ الشاطئ يغادره من عليه حتى إذا لم يبقَ لنظرة أو لابتسامة سبيل لم يبقَ إلا الآباء ومن معهم ممن جعلوا يقتربون جهة الباخرة كأنما تجرهم إليها.
ابتعدت الباخرة فى سيرها غير المحسوس ولم يبقَ على الشاطئ إنسان.
وذهبنا إلى الجهة الثانية فإذا أحجار المينا تقترب منا وهى قائمة بين الماء الهادئ الذى تسرى فوقه والخضم الهائل الذى ينتظرنا، ثم سمعت الأذن صريف أمواجه المتكسرة على الأحجار.
عبرنا عباب المرفأ وتجلَّى أمامنا البحر ممتدًّا إلى الأفق، وجلست فوق تلك المدينة السائرة أتحادث وأصدقائي، وزادت سرعة الباخرة فجعلت الإسكندرية تنطوى أمام الناظر شيئًا فشيئًا، ومد من شاء من المسافرين بصرة يودع هذه الديار العزيزة الغالية، والشمس يغمر نورها الجو وينطرح على مهاد الأمواج شعاعها قد ابتدأت تهبط إلى مغيبها.
على هذا البعد الشاسع بيننا وبينها ظهرت المدينة مستكينة صاغرة وأحيت أمام الذاكرة الإسكندرية القديمة حين الناس فى مدينتهم الأولى، وكلما زاد بعدنا عنها طحنها الأفق وأخفى من معالمها وزادها استكانة وخفوتًا، ونحن ننظر لها وللُّجَّةِ الهائلة تفصلنا عنها والعين أعلق ما تكونت بما بقى منها والقلب يَوَدُّ لو يطير إلى هاته الأراضى كمن فيه حبها طول حياته، وها هو يستعر أن يراها تبتلعها السماوات والبحار.
ثم ارتميت إلى مقعدى أن طمس الأفق على الخيال الأخير الذى كنت أرى، وأحسست كأن حزنًا يثقل فؤادى وينوء به صدري، وراحت خيالاتى فى تيهاء لا أدرك فيها شيئًا.
لم يطل بى المقام على هذا الحال إذ اعترانى الدوار واضطرنى أن أهبط إلى غرفتي.
١٠ يوليو
لنا الآن يومان على البحر تحيط بنا دائرة الأفق فوقنا وأسفل منا زرقة السماء وزرقة الماء … نحن فى وحدتنا تتهادى بنا الباخرة فوق الامواج ولا تسمع الأذن سوى كلام المسافرين الهادئ الساكن ورغاء الماء يشق عبابه حيزوم قاربنا الهائل، وتطلع الشمس والناس فى مراقدهم ثم ترتفع ويتلقف الموج شعاعها ويتقاذفه حتى يفنيه وسط اللجة العظيمة، وتغرب وهم يتجهزون لطعامهم فلا يُعنى بمغربها منهم جائع، ثم ندخل بكلنا تحت غطاء الليل ينفرد على الوجود وتتلألأ فيه النجوم.
ذلك ما نرى من يومين طويلين حتى اعتادت العين المنظر والسمع هذا الوش الدائم، ولم يبقَ أمام الحواس ما يستدعى الالتفات أو يشغل الضمير، نعيش فى هدأة كاملة، أكبر ما يهمنا أن نقوم للطعام وأقصى أمانينا أن نفرد مقعدنا فى مكان ظليل، فنمد فوقه سيقاننا ونسند إليه رأسنا وننظر بعين نصف مغمضة إلى الفضاء الذى أمامنا، ونترك أنفسنا خالدة إلى سكونها ناعمة فى ذلك التخدر اللذيذ الذى يجيئها به نسيم البحر.
ما أحلى هذه الحياة الفارغة من كل الهموم وما أطيبها! يمر علينا الوقت فى مقعدنا هذا أو جالسين إلى جانب أصدقاء يحكون لنا عمَّا سنرى ولا نحس بمره … نمسك أحيانًا كتابًا فلا يجذبنا شيء ممَّا فيه لأنه مهما كان لذيذًا لا يساوى عيش السكون الذى يغمرنا.
نجاهد أحيانا أن نغير هذا العيش ونبدله ببعض النشاط فندور فوق القارب من جانب لجانب، ولكن ما أسرع ما نرجع إليه إذ لا شيء يعوضنا عنه.