نواصل مع الكاتب المصرى محمد حسين هيكل قراءة مشروعه المهم فى عملية النهضة المصرية، حيث شارك بعدد من الكتب المهمة عملت على تنوير العقل المصرى والعربى، ونتوقف اليوم مع كتابه المهم "ولدى".
شكلت كلمة "الموت" المفصل فى تعامل المؤلف مع كتابه، فجعلته يُهديه إلى ولده "ممدوح" الذى اختَطفه الموت، كما جعلته يُبدل عنوانه إلى "ولدى" بدلًا من "خلال أوروبا" الذى كان يعتزِم تسمية الكتاب به أملًا فى تقديمه ككتاب سياحى يُهديه إلى زوجته احتفَاءً بزيارتهما لأقطار أوروبا شرقًا وغربًا.
وقد تجلت ملكات محمد حسين هيكل الإبداعية حينما أشرك البلدان التى زارها فى استحضار مأساة ولده، فيذكر مدينة ميلانو التى اسْتَرعَت انتباهه قبورها التى عُدَّت معلمًا فنيًا يبرهن على وجهٍ من وجوه الإبداع الإيطالى، ثم يعرض لنا مشاهد أخرى لبلدانٍ زارها وكأنه يتجول بعين السائح المستكشف، وقلب الأب الجريح، وقلم الأديب المبدع.
يقول محمد حسين هيكل فى الكتاب:
ما أعجب لعب الحوادث بنا، وتوجيهها إيانا! فلو أن هذا الكتاب نشر من عام مضى لنشر باسم غير اسمه، ولنظمت مواده غير نظامها الحاضر، فإلى عام مضى كان عزمى أن أجعل عنوانه "خلال أوربا"، وأن أرتب مواده على أنه كتاب سياحة، وأن أجعل إهداءه إلى زوجى أن كان من أجلها اجتيازنا أوربا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ولم يكن عنوان "ولدى" ليدور يومئذ بخاطرى أو لتجرؤ أن تخطه يدى، أن كانت كلمة "ولدى" جديرة بأن تثير فى نفسى وفى نفوس أحب الناس إلى آلم الذكرى وأفجع الأثر، لكن رحمة الله بنا وعطف القدر علينا وما عوضنا عما احتسبنا، خفف من لوعة هذه الذكرى الأليمة التى يثير خيال ورودها إلى النفس عبرات من مآق يعز على أن تنهل منها دمعة ألم واحدة.
واليوم وإن بقيت فى القلب ندوبه فإن الثغر ليفترُّ عن ابتسامة لهذه الطفلة التى رزقنا، والتى نرجو لها ما يرجوه أبر الآباء لأحب البنين، ونرجو بها فى الحياة متاعًا حرمناه مدى سنوات أربع كنا نمد النظر نحو صيف كل واحدة منها بصبر ذاهب لنفرَّ من بلاد الذكرى المحزونة، آملين فى فسحة بلاد الله عنها عوضًا.
وهيهات أن تعوض بلاد الله جميعًا نفسًا كليمة، وقلبًا كسيرًا، وفؤادًا يتنزى ألمًا، إلا ما فى تنوع مظاهرها واختلاف الليل والنهار فيها مما يصرف القلب إلى الجديد الذى يقع عليه، فينسيه من حر لوعته، ويسكن من نيران جراحه.