نواصل التعرف على قصة السيدة مريم، عليها السلام، وقد حملت السيد المسيح، وانتبذت من أهلها مكانا قصيا، فما الذى يقوله التراث الإسلامي في لحظة الميلاد؟
يقول كتاب "البداية والنهاية":
قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر فى بنى إسرائيل أنها (مريم) حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا، قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذى كان يتعبد معها فى المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكانا قصيا.
وقوله: { فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } أى: فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، وهو بنص الحديث الذى رواه النسائى بإسناد لا بأس به، عن أنس مرفوعا، والبيهقى بإسناد، وصححه عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا ببيت لحم الذى بنى عليه بعض ملوك الروم، فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل.
"قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا" فيه دليل على جواز تمنى الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها، حين تأتيهم بغلام على يدها مع أنها قد كانت عندهم من العابدات، الناسكات، المجاورات فى المسجد، المنقطعات إليه، المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة.
فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت إن لو كانت ماتت قبل هذا الحال، أو كانت "نَسْيا مَنْسِيّا" أى: لم تخلق بالكلية.
وقوله: "فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا" وقرئ من تحتها على الخفض، وفى المضمر قولان: أحدهما أنه جبريل، قاله العوفى عن ابن عباس، قال: ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم.
وهكذا قال سعيد بن جبير، وعمرو بن ميمون، والضحاك، والسدى، وقتادة، وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وسعيد بن جبير، فى رواية هو ابنها عيسى، واختاره ابن جرير.
وقوله: "أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا" قيل: النهر وإليه ذهب الجمهور، وجاء فيه حديث رواه الطبرانى، لكنه ضعيف، واختاره ابن جرير، وهو الصحيح.
وعن الحسن، والربيع بن أنس، وابن أسلم، وغيرهم، أنه ابنها، والصحيح الأول لقوله: "وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا" فذكر الطعام والشراب، ولهذا قال: "فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنا" ثم قيل: كان جذع النخلة يابسا، وقيل: كانت نخلة مثمرة، فالله أعلم.
ويحتمل أنها كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لأن ميلاده كان فى زمن الشتاء، وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان: "تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا" قال عمرو بن ميمون ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا على بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري، عن عروة بن رويم، عن على بن أبى طالب قال:
قال رسول الله ﷺ:
" أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذى خلق منه آدم وليس من الشجر شىء يلقح غيرها".
وقال رسول الله ﷺ:
"أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران".
وكذا رواه أبو يعلى فى مسنده عن شيبان بن فروخ، عن مسروق بن سعيد، وفى رواية مسرور بن سعد، والصحيح مسرور بن سعيد التميمىي، أورد له ابن عدى هذا الحديث عن الأوزاعى به، ثم قال: وهو منكر الحديث، ولم أسمع بذكره إلا فى هذا الحديث.