نواصل قراءة مشروع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964)، الذى يعد أحد أبرز الكتاب العرب فى القرن العشرين، وقد ترك خلفه إرثا مهما لا يزال يحمل تأثيرا على القراء والمبدعين العرب والمصريين، واليوم نتوقف مع كتابه "إبراهيم أبو الأنبياء".
يقول الكتاب تحت عنوان: خليل الرحمن وخليل الإنسان
فى العالم اليوم أكثر من ألف مليون إنسان يدينون بالموسوية والمسيحية والإسلام، وهى الأديان التى جاء بها موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهم الأنبياء الثلاثة الكبار الذين ينتمون جميعًا إلى الخليل إبراهيم … لا جر أن يُسمى خليل الرحمن.
ولا جرم تتجمع الجهود كلها للبحث عن تاريخه المجهول فى أغوار الأرض، فإن علم الأحافير لم ينحصر فى البحث عن تاريخ أحد قط كما انحصر فى البحث عن تاريخ أبى الأنبياء، وما تجردت البعوث إلى العراق وفلسطين ومصر لسؤال الأرض عن مكنون من أسرارها، كذلك السر المكنون الذى ينطوى على أعمق أسرار الروح والضمير.
قال منقب من أولئك المنقبين الذين عُرفوا باسم الحفريين: إن الناس قد بدءوا بالحفر فى الآثار طلبًا للذهب ولقايا الحلى والجوهر، ثم عرف الناس شيئًا أنفس من تلك المعادن يبحثون عنه ويتهافتون على استخراجه وتحصيله، وهو التاريخ المقدس، أو تاريخ المعانى العليا التى ترتفع به إلى السماء، ولها مستودع فى جوف الرغام.
وكل شىء يغلبه الإنسان يحفزه إلى ذلك السر الذى تقاسمته الأرض والسماء.
فإلى جانب البحث عن أصول العقائد يبحث المنقبون فى تاريخ الخليل عن فتوح لا نظير لها فى تاريخ الإنسان.
وقد أكثر المؤرخون من القول فى أنباء الفتوح التى غيرت مجرى التاريخ، أو غيرت علاقة الإنسان كله بالعالم الذى يحيط به ويحتويه.
ولكن المؤرخين لا يستطيعون أن يذكروا فتحًا من تلك الفتوح أعظم عملًا، وأبقى أثرًا فى تاريخ الإنسان، من تلك الفتوح التى اقترنت بدعوة الخليل.
إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد، واقترنت بميزان العدل الإلهى، واقترنت بإعلاء العبادة إلى ما فوق الطبيعة والجثمان.
وهذه هى الفتوح التى لا نظير لها فيما تحدث عنه المؤرخون من فتوح الحياة الإنسانية منذ أقدم عصورها إلى العصر الحديث.
لا نظير لها فيما فتحه الإنسان من هذا العالم حين سخَّر النار، أو سخر الحيوان، أو سخر الكهرباء، أو سخر الذرة على جلالة فعلها وضآلة قدرها، وهى أقوى المسخرات فيما عرفه إلى اليوم.
هذه فتوح فيما يملكه الإنسان.
أما تلك الفتوح ففيها ملاك الإنسان كله، فيما يعلمه وما لا يعلمه، وفيما يبديه وفيما يخفيه.
تلك فتوح غيرت عالم الإنسان الظاهر وعالمه الباطن، وليس قصارى الأمر فيها أنها عبادة جديدة أفضل من عبادات سبقتها، وإن كانت العبادة الفضلى غنمًا يغليه من يقتنيه، ويفديه بكل ما يعيه وما لا يعيه.
كلا … بل هى عبادة فضلى، وفكر فاضل، ونظر جديد إلى الكون وإلى الإنسان وبنى نوعه فى وحدته وفى اجتماعه.
وهى فتوح تصحح مقاييس الفكر وتبدل علاقة الإنسان بنفسه وبدنياه، وتحسب من أجل ذلك فى سجلات العالم، ورياضات الخلق، وقوانين الاجتماع.
إن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل ينظر إلى الكون كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، يتسلط عليها هذا بإرادة، ويتسلط عليها غيره بإرادة تنقضها وتمضى بها إلى وجهة غير وجهتها، فلم يكن التوحيد عبادة أفضل من عبادات الشرك وكفى؛ بل هو علم أصح، ونظر أصوب، ومقياس لقوانين الطبيعة أدق وأوفى، ومن هنا صدرت كل فكرة عظيمة عن الكون من عقل فيلسوف مؤمن بالوحدانية، وإن لم تبلغه دعوة الأنبياء.