نواصل قصة السيدة مريم ابنة عمران وابنها عيسى بن مريم، التى بشرها الله بابنها النبى، وبعد أن ولدته أخذته وذهبت إلى قومها الذين لم يصدقوا أن الله قد رزقها بالطفل.. فماذا قال التراث الإسلامى بعد ذلك؟
يقول كتاب البدايه والنهاية:
"فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ" أى: خاطبوه وكلموه، فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه. فعندها "قَالُوا" من كان منهم جبارا شقيا "كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّا" أى: كيف تحيلينا فى الجواب على صبى صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع فى مهده، ولا يميز بين محض وزبده، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا، والاستهزاء والتنقص لنا والازدراء، إذ لا تردين علينا قولا نطقيا، بل تحيلين فى الجواب على من كان فى المهد صبيا فعندها:
"قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا * وَبَرّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارا شَقِيّا * وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا" هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مريم، فكان أول ما تكلم به أن "قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ" اعترف لربه تعالى بالعبودية، وأن الله ربه، فنزه جناب الله عن قول الظالمين فى زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله، وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: "آتَانِى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّا" فإن الله لا يعطى النبوة من هو كما زعموا، لعنهم الله وقبحهم.
كما قال تعالى: "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانا عَظِيما" [النساء: 156] وذلك أن طائفة من اليهود فى ذلك الزمان قالوا: إنها حملت به من زنا فى زمن الحيض، لعنهم الله، فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة، واتخذ ولدها نبيا مرسلا أحد أولى العزم الخمسة الكبار.
ولهذا قال: "وَجَعَلَنِى مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنْتُ" وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة، تعالى وتقدس.
"وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا" وهذه وظيفة العبيد فى القيام بحق العزيز الحميد، بالصلاة والإحسان إلى الخليقة بالزكاة، وهى تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة، وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج، على اختلاف الأصناف، وقرى الأضياف، النفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات، وسائر وجوه الطاعات، وأنواع القربات.
ثم قال: "وَبَرّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارا شَقِيّا" أى: وجعلنى برا بوالدتي، وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة، وبرأها وأعطى كل نفس هداها.
"وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارا شَقِيّا" أى: لست بفظ ولا غليظ، ولا يصدر منى قول ولا فعل ينافى أمر الله وطاعته "وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا".