أزاحتْ الشمسُ ستارَ الليل، وأضاءتْ غزالُ المكانَ، ضربتْ بقدميها الرمالَ وجلجلتْ خلاخيلُها في فضاء الصحراء، معلنةً عن قدوم الحسناء السمراء ذات الشعر الغجري، الذي لم تتوقف نسمات الهواء عن مداعبته، صاحبة الأنفاس الدافئة التي تلطف برودة الجو في الخلاء، وتدفئ الخيام.
خرجت سيدةُ البادية في الصباح الباكر من خيمتها حافية القدمين، تجول الصحراء يمينًا ويسارًا، تتأمل النباتات وتبحث بينها عن العشب الذي طلبه منها حكيم القبيلة، كي يعد منه الدواء لبعض أبناء عشيرتها الذين أصابهم وباء انتشر بينهم وبدأ يقضي عليهم واحدًا تلو الآخر إلى أن حصد أرواحًا عدّة، والله الشافي المعافي.
هنا، كلُّ شيءٍ مقدرٌ سلفًا، حتى المؤامرات التي تحاك في ليالٍ معتمة ليستْ خارجةً عن أسقف التوقعات، الرتابةُ والمفاجآت أيضًا ليست مثيرةً، الكلُّ خاضعٌ لقانون الله، والأهالي ليسوا في حاجة إلى السلطات الرسمية لحفظ الأمن، فالربُّ خير حافظاً، وإن بدى بعض اللصوص والأشرار أحيانًا قادرين على استغلال غفوة الرعاة، فيسطون على أراضٍ أو مواشٍ أو أملاك، حينها لا نصير إلا عائلة الضحية وأهل النخوة، وقبل أيديهم يد الله.
فجأة توقفت غزال «سبحان من أبدع هذه الزهرة بالألوان الخلابة التي نمت وحيدة من قلب صخرة دون رعاية أو ماء، لقد سلبت عقلي»، «لكنها ليست أجمل منك كما أنها ليست وحيدة فمعها قلبك»، أفزعها الدخول المباشر دون مقدمات والمفاجأة غير المتوقعة، استدارتْ مرتبكة بعد سماعها كلمات لم تعتدها. توقفت عند وجهه لتتذكر أنها رأته منذ عام مضى وهو يعمل في الأرض المجاورة لها، كلُّ شيءٍ بقضاء، وقتها اكتفى بهمسه لها بعينيه، دون أن تسنح له الفرصة للحديث معها، لكن طيفه ظلّ يراودها، فوجئت بأنها تنظر له بشغف بينما يتابع: «أهذا حقا هو الجنون؟!»
- أي جنون؟
- جنون الحب.
- أي حب؟!
- الذي سكن قلبي منذ أن رأيتك أول مرة، والذي أصابك وأراه الآن في عينيك مثل النجوم في الليل، ينطق على وجهك المليح، وسبق أن كابدته طوال ليال تشبه لون وطول شعرك.
- كفى. ما الذي تقوله وأنا لا أعرف حتى من أنت؟
- أنا من اشتعلت نار الحب بقلبه منذ أن رآك النبعَ الذي يروى ظمأ صبره، بحق صورتك التي تسرح في خيالي، لقد أحببتك.
ولأنها سبق وأن سمعت من جدتها الدرويشة أن الله يحب العشق وأنّ الجنة للعشاق، نسيت الخوف والفزع الذي اعتراها في بداية الأمر، قالت وقد تملكتها جرأة غير معهودة: بحق شتات نظرتي حين أحلق في عينيك، أنا أيضًا أحببتك.
غزالة عاشقة الطبيعة من تغازلها السماء الواسعة، ترافق الشمس والقمر في كل مكان. يختلط غناؤها مع الفيفاء ويجليها، صديقة النجوم، جامعة الندى من بين أشواك الصبار القاسية، عمرها من عمر هذه الصبارة، عشرون عامًا بالتمام.
مال على الزهرة وقطفها من قلب الصخرة وجذبها إلى صدره، وأمسك بيد غزال ووضعها فيها وقبلها فارتعشت.
- انتهى عملي وسأعود مع زملائي، لكنني أعدك بأن أعود إليك مرة أخرى قبل أن تذبل الزهرة، كي لا يضيع أملي في رؤياك.
- لن أتركها تذبل، سأرويها بدموعي وإن جفت سأرويها بدمائي، ولو نفدت حينها تكون حياتي قد انتهت.
بعيون دامعة ودّعته، هائمة تتحدث إلى نفسها:
ما الذي حدث؟ شيء غريب يطوف بداخلي ويهزّ كياني بأكمله، لست أدري أين يسكن جسدي وما الذي يفعله بي؟ وكأن قوة مجهولة تجذبني، عقلي يشرد مني ولا أرى شيئَا حولي ولا أشعر بنفسي إلا وأنا مستلقية على الأرض، أنظر إلى السماء فتلاحقني عيناه لتحرقا قلبي.
أفاقت فجأة حين احتدت الشمس على رأسها، وجرت شاردة إلى المخيم، ووجدت أهل القبيلة يلملمون مقتنياتهم، يهتف الحكيم «لستُ أسألُ أَنْ تأخذهم من العالم بل أنْ تحفظهم من الشرير»، سألها والدها بحدة: أين كنتِ؟ ألا تعرفين أننا نعد للرحيل منذ أيام؟ هيا أسرعي وأكملي جمع مقتنياتنا مع أمكِ حتى نرحل، وبئتْ الأرضُ وانتشر بها المرض، وأخذ الموت يحصد أبناءنا.
كما لم تكن مؤامرة إخوة يوسف ببعيدة عن عيون الله، كان القدرُ يتآمر على كل شيء هنا، لم تفكر غزال إلا في موعد الحبيب، صرخت قائلة: «لا، لا، لا يمكنني أن أترك أرضي أبدًا» وانفجرت في البكاء متوسلة لوالدها وهو متعجب من أمرها.
«إنها ليست أول مرة نُغيّر فيها أرضنا، والآن نحن في خطر والوباء يهدد حياتنا، ولا وقت للجدال. هيا» فشلت غزال في محاولاتها مع أمها التي قررت إنهاء النقاش بجذبها من شعرها وهي مستعصية عليها. أخذت تبكي وتصرخ وتحاول تثبيت قدميها في الأرض رافضة الرحيل، لكن القرار كان أقوى منها، فلم تملك إلا أن تنظر للمكان نظرة الوداع وقلبها ينفطر، فجأة أفلتت يداها من قبضة أبيها وأخذت تركض عائدة إلى مكان اللقاء.
عندما وصلت استلقت على الصخرة وقد شحب وجهها من الحزن، قبضت بيدها على زهرتها، وعيناها تجولان كل الأرجاء تبحثان عن طيفه. عندما اتجهت الشمس نحو المغيب كانت القافلة المنتظرة على البعد حطت رحالها مؤقتا، فى انتظار الفتاة التي مسّها الجنون، هكذا قدّر حكماء العشيرة الموقف، ورأوا أن هدوء الليل سيمكنهم من احتواء ما أصابها، قالوا: انتظار يوم آخر لن يضر. مع الليل كان جسدها استقر تمامًا على الأرض، تسقط دموعها على زهرتها تحاول أن ترويها دون فائدة، بدأت الزهرة تذبل ولم تعد غزال قادرة على تحمل ألم قلبها، ودمعاتها المنثورة على خدها وزهرتها التي تذبل مع آخر أمل لها، وعمرها الذي شارف على الانتهاء حيث لا حياة في عينيها.
«إنه الوباء» هكذا قال الحكيم وهو يوصى أهلَها بعدم الاقتراب منها اتقاء للعدوى، أدرك الجميع أن لقاء غزال أصبح مستحيلَا وأن عناقها بات بعيدًا، قلب الأم المحترق على الابنة يتوق إلى عناق أخير مستحيل والأب الذي هبطت عقدة حاجبيه الغاضبة بدمعة حارقة من الشوق إلى ابنته ليس هناك ما يقدمه من عون، ولا أي معنى لتقديم يد المساعدة، عندما أغلقت عينيها للأبد انهمرت الدموع. وحدها الزهرة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تعرف ماذا حلّ بغزال، على البعد كان يبدو طيف شاب يقترب، وهو يُمنى نفسه بلقاء ظلّ يحلم به طوال سنوات عمره!