"فى أيام مجدها، لم تكن الإسكندرية القديمة تنظر بحساسية إلى تعدد العقائد وتباين الديانات، وإنما كان الأفق السكندرى مفتوحا أمام أى عقيدة ما دام بعض الناس يؤمن بها، شريطة ألا يصادر هؤلاء المؤمنون حق غيرهم فى أن يكونوا مؤمنين بعقيدة أخرى"، هذه هى الجملة العمدة فى كتاب "دوامات التدين" للباحث والروائى الدكتور يوسف زيدان والصادر عن دار الشروق.
وفى الكتاب يؤكد يوسف زيدان، أن معنى الدين يختلف بطبيعة الحال عن مفاهيم التدين، فالدين أصل إلهى والتدين تنوع إنسانى، الدين جوهر الاعتقاد والتدين هو نتاج الاجتهاد، ومع أن الأديان، كلها، تدعو إلى القيم العليا التى نادت بها الفلسفة (الحق، الخير، الجمال) فإن أنماط التدين أخذت بناصية الناس إلى نواح متباعدة، ومصائر متناقضة، منها ما يوافق الجوهر الإلهى للدين ويتسامى بالإنسان إلى سماوات رحيبة، ومنها ما يسلب هذا الجوهر العلوى معانيه ويسطح غاياته حتى تصير مظهرا شكلانيا، ومنها ما يجعل من الدين وسيلة إلى ما هو نقيض له.
ثم ناقش الكتاب من خلال عدد من الفصول هى المزيج السكندرى البديع، وتلمود اليهود، والحسبة على الأفكار والأفئدة، الجماعات الشيعية، والجماعات الصوفية المصرية، والرؤية الصوفية للعالم، وفصوص النصوص الصوفية أنه من خلال هذه المقالات قصد إلى النظر فى أنماط التدين، حتى تلك التى سبقت انتشار العقائد الرسالية الثلاث "اليهودية، المسيحية،الإسلام" ومعظم فصول الكتاب تختص بالجانب الروحى من خبرات التدين، وهو الجانب الذى ظهر عند اليهود فى القبالة (الكابالا) وعند المسيحيين فى الرهبنة، وعند المسلمين فى التصوف، ولأن التصوف عالم رحيب، استعراض المؤلف الجماعات الصوفية والرؤى التى قدمها الأولياء، وفصوص نصوصهم، على أن فصول هذا الكتاب، وإن كانت تستعرض فى الأساس خبرات "التدين" إلا أنها تسعى من وراء ذلك إلى استكشاف الآثار العميقة، شديدة الأثر، التى قد تأخذنا إليها التجارب التطبيقية لمفهوم "الإيمان"، وتدير الرءوس وتبدد فرص النجاة من الغرق، مثلما تفعل الدوامات والأعاصير والريح الصرصر العاتية.
وفى الكتاب يتوقف "زيدان" طويلا أمام الروح السمحة، حيث ساد احترام "الإنسان" فى الإسكندرية القديمة، متضمنا احترام "عقيدة" أى جماعة من بنى الإنسان، ما دامت قلوبهم قد هويت هذا المعتقد أو مالت هذا الدين. ومن هنا، حفلت المدينة بما لا حصر له من مذاهب وعقائد وديانات، فكان منها ما سوف يسمى لاحقا بالديانات السماوية، كاليهودية، ومنها ما سوف يسمى بعد انتشار المسيحية بالديانات الوثنية.
ويقول "زيدان" فى كتابه، كان الدستور السكندرى "غير المكتوب" يبيح حرية العبادة باعتبار أن ذلك يدخل فى إطار الحرية الشخصية والصلة الخاصة بين الإنسان والإله، وآنذاك، لم تكن تفرض عقوبات على غير المتقين أو الخارجين عن نطاق الدين كتلك العقوبات المفروضة التى ظهرت بعد ذلك فى اليهودية المتأخرة والمسيحية المبكرة والإسلام السياسى، ثم اتخذت أشكالا متعددة تبدأ بالاستهجان العام والتهديد بنزول الغضب الإلهى فى "اليهودية" مرورا بالعقوبات الدنيوية الطرد من حظيرة أهل الإيمان بتوقيع الحرم والشلح على المهرطق (فى المسيحية) وصولا إلى إهدار دم المرتد عن الدين (فى الإسلام) اعتمادا على حديث نبوى يقول "من بدل دينه فاقتلوه".