يناقش كتاب"رؤى من بلجيكا لمكافحة التطرف والإرهاب" الصادر عن مركز المسبار للدراسات، تجربة بلجيكا فى مكافحة التطرف، لا سيما من داخل السجون، وفى متابعة العائدين من بؤر التوتر، وقصد الكتاب نقل هذه التجربة، بأقلام خبراء منخرطين فى التعاطى مع الملف فى بلجيكا. كما ناقش الكتاب؛ تجاهل الأسباب المعقدة للتطرف العنيف.
وأشارت التجارب التاريخية الحديثة إلى أن المنضوين فى الحركات الإسلاموية فى مختلف الدول، أفادوا من السجون من أجل التجنيد، فتحولت إلى حواضن غير مرئية، للأشخاص المتطرفين بعيداً عن رقابة الدولة، إلاّ أن الأصعب فى هذه القضية الحيوية: أن دولاً أوروبية عدة ومن ضمنها بلجيكا، تواجه معضلة عودة المقاتلين أدراجهم إلى أوروبا، فعلى الرغم من صدور أحكام بالسجن على الفور، ثمة مخاطر مرتفعة بأن يسعى أولئك إلى تجنيد عناصر جديدة داخل السجون، مما يضاعف من القلق الناجم عن هذه الظاهرة العالمية، إذ تظهر بعض الخلاصات أن الجيل الجديد من الإسلاموية، العابر للحدود الوطنية، والقارات من العائدين من بؤر التوتر فى الشرق الأوسط، تحديداً من تجندوا فى تنظيم داعش، هو أكثر عنفاً ودموية وخطورة، إذا ما قورن بالأجيال السابقة من المنتمين إلى الجهاد المعولم.
قدم الكتاب تحليلاً لكيفية تعامل نظام العدالة الجنائية البلجيكى مع مشكلة الإرهاب وتطبيقاته، فتطرق إلى طرائق وأصناف الاحتجاز والإجراءات الأمنية والرقابية داخل السجون، والعقاب على الجرائم الإرهابية كما هو منصوص عليها فى القوانين. تقترح الدراسة المعنية فى هذا المجال القانونى "أنه ليس من مصلحة لأحد فى المجتمع؛ إطلاق سراح شخص متطرف وخطير، إذ إن نوع الجرائم التى يرتكبها المتطرفون لا تسمح بأى مغامرة، فليس هناك مصلحة لأحد أن يسجن الشخص دون تقويم وإعادة تأهيل؛ لذلك فمن الضرورى والواجب أن تتم عملية التشخيص للسجناء".
تعتمد بلجيكا منذ سنوات على استراتيجية الإدارة المتكاملة لمكافحة التطرف ونزعه، باعتبارها الأسلوب الأمثل لدى الجهات الحكومية وغير الحكومية للتعاون والتشارك لمواجهة الظاهرة الإرهابية، والمقصود بذلك إشراك الجهات الفاعلة والمتعددة التخصصات فى البرنامج أو الخطة التى يرجى تطبيقها. فى هذا السياق يبين الكتاب الخطة الأنموذجية التى استندت إليها الحكومة داخل السجون ومن بينها: إشراك المجتمعات المحلية وقطاع التعليم والمنظمات الدينية كالمرشدين الدينيين، للوقاية والحد من زيادة تفشى التشدد فى صفوف السجناء، إنشاء هياكل فاعلة للتشاور والتنسيق، تحسين الظروف فى السجون، العمل على عملية اكتشاف أفضل لظاهرة التطرف، وسياسة تموقع السجين وإنزاله فى الجناح المناسب.
من الناحية السيكولوجية، عرض الكتاب للأسباب النفسية الكامنة فى نزوع الأفراد نحو الراديكالية -فى التجربة البلجيكية- التى يُنظر إليها بوصفها عملية دينامية متجددة تنطوى على مراحل مختلفة؛ وهى ذات بعدٍ يستبطن قدراً متنوعاً من التنوع والتميز. تلاحظ الدراسة المولجة فى التحليل النفسى -والتى تركز فى قسم كبير منها على العائدين من سوريا- أن السياق الاجتماعى يلعب دوراً جوهرياً، تكون فيه العناصر المؤثرة بمثابة الأساس لتحقيق العدالة، بينما تعد الفردية (المهددات الملموسة للهوية الاجتماعية) وثيقة الصلة. أما التأثيرات الأيديولوجية الناجمة عن قرائن الأحوال؛ ومجريات الظروف السياقية، فهى أيضاً تعلب دوراً فى هذا المقام.
وفى سبيل استراتيجية أوسع، أولى الكتاب أهمية لأدوار المنصات الإلكترونية فى نزع التطرف، متناولاً التجارب الأوروبية ومن بينها التجربة البلجيكية، لقد خرج مُعِدّ الدراسة بجملة من المقترحات للتعلم عن بعد بهدف معالجة التطرف داخل السجون، خصوصاً فى ظل عدم توافر الكوادر الكافية القادرة على القيام بالمهمة بشكلها التقليدي، يأتى من بينها: استخدام المواد المسموعة والمرئية، تطوير برامج وقائية إلكترونية، استخدام برامج الذكاء الاصطناعي؛ لتحديد مدى عمق التطرف لدى السجين، واقتراح البرامج التأهيلية.
تناول الكتاب تجربة "كلية مقارنة الأديان والأنسنة فى بلجيكا" من أجل ترسيخ التعايش والتسامح من منظور أكاديمى وترجمته اجتماعياً. يدرك المتخصصون فى نزع التطرف أن التربية والتعليم يشكلان عاملاً أساسياً فى الحد من الراديكالية والعنف الديني، وقد خاضت دول أوروبية عدة -وعلى رأسها بلجيكا- تجارب مهمة فى هذا المجال، فصحيح أن الاستجابات الأمنية مهمة، إلاّ أنها غير كافية، بحيث إنها لا تعالج الظروف الكامنة التى تدفع الشباب إلى الانضمام للجماعات والتنظيمات الإرهابية، فنحن نحتاج إلى قوة الإقناع عبر تعليمٍ يتمتع بجودة عالية للتصدى للراديكالية؛ فالتعليم يعد من بين أنجع الإجراءات الوقائية.
وتناول الكتاب نماذجَ لتفكير "المناصحين" فى الأنموذج البلجيكي، وفهمهم للنصوص التى يحاورون بها المتطرفين، وسعيهم لاستغلال مرونتها، لنزعها عن مسار المتطرفين، الذين يريدون تطبيق أجندتهم المتطرفة والمعادية للدين والدولة والتعددية والعيش المشترك، بإخراجها من سياقها التاريخي.