لم يكن اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء، بالأمر السهل، لكنه بداية الفتنة الكبرى، التى غيرت كل شيء فى الدولة الإسلامية، وأسست لصراع يمكن القول إنه يستمر حتى الآن، ورغم الخلاف حول مقتل سيدنا عثمان هل كان فى 17 يونيو أم 17 يوليو من عام 656 ميلادية، لكن بالمجمل، فإن هذه الأيام هى ذكرى الاغتيال.
وهناك أسباب كثيرة أدت إلى اغتيال الصحابى الجليل الملقب بذى النورين، لكننا سنتوقف عند سبب مهم أشار إليه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، الذى يقول فى كتابه "ذو النورين عثمان بن عفان": كانت "المشاغبات التى يجمح بها الدهماء، ولا اختلاف بينهما وبين المشاغبات التى تعمل فيها: الأغراض الصغيرة، والغرائز الهوجاء، والدعاوى الملفقة، والصيحات التى تقبل بغير تمحيص، وتنطلق على غير مقصد وعلى غير هداية.
وأساس البلاء كله البطر على الحقوق التى كسبوها من الإسلام ومنها حق خوَّلهم إياه عثمان، حين وفد الوفود، وندب طوائف منها للقائه فى موسم الحج كل عام؛ لإبلاغه ما يشكونه من الولاة وما يطلبونه إليه، وقد رأينا أنهم استسهلوا الشكاية من العمال من أيام عمر، ثم زادها سهولة عليهم أنهم استطاعوا فى عهد عثمان أن يقدحوا فى انتخابهم ويشككوا الناس فى كفايتهم للولاية لولا قرابتهم من الخليفة، وليس أدل على وَهْى الأسباب الحقيقية للشكوى من حاجتهم إلى نبش الماضى عن أسباب تثير الشعور ولا تستند إلى حجة غير المزاعم والأقاويل. ومن ذلك نبشهم عن سيئات عبد الله بن أبى السرح الذى ارتد فى عهد الدعوة، ثم تاب وولاه عمر بعض ولاياته فى مصر، فإنهم زعموا أن عثمان قد ولاه القيادة؛ لأنه أخوه فى الرضاع، والصحيح أن عبد الله بن أبى السرح كان أكفى الكفاة فى قيادته، وأنه انتصر حيث قاد جيشًا فى البر أو فى البحر، ومع الروم أو مع أهل إفريقية، وزعموا أن عثمان نفل مروان بن الحكم بخمس الغنائم التى أرسلها ابن أبى السرح من إفريقية، وهو غير صحيح، وإنما الصحيح أن ابن أبى السرح أخرج الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار؛ فأنفذها إلى عثمان وبقى من الخمس أصناف من الأثاث والماشية يشق حملها إلى المدينة، فاشتراها مروان وبقيت من ثمنها بقية عنده فوهبها له عثمان يوم بشره بفتح إفريقية، والناس على وجل من أخبار الغارات عليها.
وكقصة ابن أبى السرح قصة الحكم بن العاص الذى رخص له عثمان فى العودة إلى المدينة بعد أن نفاه النبى عليه السلام عنها، فإنما أبى النبى أن يساكنه فى المدينة، ثم وعد عثمان أن يعفو عنه، ولا حرج من مقامه حيث لا مساكنة له عليه السلام بعد وفاته، فقد أذن له بالمقام فى الطائف حيث لا يسكن معه وهى أحب فى سكنها وأشهى.
ومن هذه الشكايات التى يبحث عنها الباحث، أنه ولى الوليد بن عقبة لقرابته، ثم اتهم بشرب الخمر وثبتت عليه التهمة، فأما أنه هو الذى ولاه فغير صحيح؛ لأنه كان مولى من قبل عمر، وأما أنه شرب الخمر فقد أقام عليه عثمان الحد وعزله، ولا يطلب من الإمام أكثر من ذلك.
ولاموه؛ لأنه لم يقتص من عبيد الله بن عمر لقتله الهرمزان المتهم بالتآمر على قتل أبيه، وأيا كان وجه العدل فى هذه القضية لقد كان لوامه على قتل عبيد الله لو أنه أخذه بالهرمزان أكثر من عاذريه، فما كان أكثر من يقول يومئذ إن عمر قتل بالأمس وابنه يقتل اليوم، وقد كان عذر عثمان فى ترك عبيد الله أنه دفع الفتنة، فأطلقه ولما يمض على قتل أبيه أيام، ودفع الفتنة ولا ريب حق من حقوق الإمام.
وذكروا أنه أبعد أناسًا من الصحابة عن مساكنهم أو عن أعمالهم، ولم يذكروا أنهم أغلظوا له فى القول ولم يوقروه، وقد ضرب عمر بن الخطاب سعد بن أبى وقاص؛ لأنه لم يقف له فى مجلس الخلافة، وقال له: «إنك أردت أن تقول: إنك لا تهاب الخلافة، فالخلافة تقول: إنها لا تهابك!" ولم يعرف عن إنسان أنه اعتذر لصحابى من الإساءة إليه كما اعتذر عثمان لابن مسعود إلى يوم وفاته، وهو غاية ما يستطيع".