نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) قراءة مشروعه المهم الذى يعد يعد حجر أساس فى الثقافة العربية فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم عند كتابه "الله".
يقول الكتاب فيما يتعلق بمفهوم المصريين عن "الله":
أما مصر فتاريخها فى أطوار الاعتقاد هو تاريخ جميع الأطوار من أدناها إلى أعلاها بلا استثناء، فشاعت فيها "الطواطم" فى كلا الوجهين قبل اتحاد المملكة وبعد هذا الاتحاد، ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوى والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هى بقايا "طوطمية" تحولت مع الزمن إلى رموز، ثم فقدت معنى الرموز واندمجت فى العبادات المترقية على شكل من الأشكال.
وشاعت فيها عقيدة الأرواح، فكان المصريون من أعرق الأمم التى آمنت بالروح، ثم آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت، ورمزوا للروح "كا" تارة بزهرة، وتارة بصورة طائر ذى وجه آدمي، وتارة بتمساح أو ثعبان، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال، ولكنهم لم يقولوا بتناسخ الأرواح، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم فى زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب.
أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلى آخر العصور فهى عبادة الموتى والأسلاف دون مراء، فإن عناية المصرى بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب، وقد بقيت آثار هذه العبادة إلى ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة، ثم تغليبه على عالم الخلود وموازين الجزاء.
فقصة أوزيريس هى قصة آدمية تشير إلى واقعة قديمة مما كان يحدث فى الأسر المالكة فى تلك العصور السحيقة، وهى قصة ملك أحبه شعبه ثم نازعه أخوه «ست» عرشه فقتله، وجاءت زوجته «إيزيس» بعد ذلك بابن اسمه «حوريس» أخفته فى مكان قصى حتى بلغ الرشد، فرشحته للملك فساعده أنصار أبيه على بلوغ حقه فى العرش، وعاد «ست» ينازعه هذا الحق أمام الآلهة ويدعى عليه أنه ابن «غير شرعي» من أب غير أوزيريس، فلم تقبل الآلهة دعواه وحكمت لحوريس بالميراث.
وتقول الأسطورة: إن أوزيريس ولد فى الوجه البحري، ولكن رأسه دفن فى الصعيد بقرية العرابة المدفونة، وإن "ست" حين قتله فرق أعضاءه بين البقاع لكيلا يعثر على جثته أحد من المطالبين بثأره، ولكن إيزيس جمعت هذه الأعضاء وتعهدتها بالصلوات والأسحار حتى دبت فيها الروح من جديد وحملت منه بحوريس الذى قدح عمه فى نسبه، وقد حاول أوزيريس أن يعود إلى الملك فأخفق فى محاولته وقنع بالسيادة على عالم «المغرب» حيث تغيب الشمس وتنحدر إلى عالم الأموات.
وللخصب شأن لا يستغرب فى ديانة مصر القديمة، فهم يرمزون إلى الكون كله ببقرة تطلع من بطنها النجوم، أو بامرأة تنحنى على الأرض بذراعيها ويسندها «شو» إله الهواء بكلتا يديه، وأقدم ما تخيلوه فى أصل العالم المعمور أنه عيلم واسع من الماء طفت عليه بيضة عظيمة خرج منها رب الشمس، وأنجب أربعة من الأبناء هم "شو" و"تفنوت" القائمان بالفضاء، و"جب" رب الأرض، و"نوت" رب السماء، ثم تزاوجت السماء والأرض فولد لهما أوزيريس، وإيزيس وست ونفتيس، فهم تسعة آلهة فى مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء، ثم استقر الأمر لثلاثة من هؤلاء هم أوزيريس وإيزيس وحورس، وهناك صيغة أخرى من قصة الخلق فحواها أن "رع" كان مزدوج الطبيعة، فتولد منه الخلق فهو منهم بمثابة الأبوين.
ويتراءى لفريق من المؤرخين أن "رع" نفسه — إله الشمس — كان ملكًا على مصر فى زمن من الأزمان، ويستدلون على ذلك بخلاصة قصته المتداولة فى الأساطير: وهى أن رع ملك الدنيا قبل سكانها من البشر فتمرد عليه رعاياها فسلط عليهم ربة النقمة "حاتحور"، ثم أشفق عليهم من قسوتها، فاعتزل الدنيا وحملته بقرة السماء على ظهرها فأقام هناك، واندمج شخصه بعد حين بشخص أوزيريس.
وقد فعل غربال الزمن فعله فى تصفية هذه العقائد والأرباب، فنسى أوزيريس السلف المعبود ورسخ فى الأذهان وصف أوزيريس الشمس القائمة على المغرب أو عالم الأموات، وتوحدت عبادة الشمس بمعناها وتعددت بأسمائها ومواعدها، وجمعت بينها كلها عبادة "آمون" ثم عبادة آتون.
وعبادة "آتون" هى أرقى ما وصل إليه البشر من عبادات التوحيد فى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
فلم يكن المراد بآتون قرص الشمس ولا نورها المحسوس بالعيون، ولكن الشمس نفسها كانت رمزًا محسوسًا للإله الواحد الأحد المتفرد بالخلق فى الأرض والسماء.
وإنما جاء هذا الطور بعد تمهيدات دينية وسياسية تهيأت لمصر ولم تتهيأ لغيرها من الدول الكبرى فى تلك الفترة.
فكانت فى أقاليم القطر — قبل ظهور عبادة آتون — ثلاث عبادات "شمسية" تتنافس فى المبادئ الروحية ووسائل النفوذ التى تتغلب بها على النظراء.