تعرض كثير من العلماء والأئمة على مر تاريخ الدعوة الإسلامية إلى كثير من المحن عبر القرون، بعضهم تم رفض أفكاره، ورغم ما يلقونه اليوم من مكانة فقهية كبيرة، إلا أن هؤلاء الأئمة تعرضوا للظلم ومحن وصلت إلى حد الطرد والنفى والتكفير، من بعض الجهلاء الذى لم يذكرهم التاريخ بشئ سوى تعصبهم الأعمى.
وتمر اليوم الذكرى 1210 على ميلاد الإمام محمد بن إسماعيل البخارى، أحد أشهر علماء الحديث، وصاحب صحيح البخارى، إذ ولد فى بخارى فى 20 يوليو عام 810م، وواجه ذلك الإمام الذى ينظر إليه نظرة إجلال تقديرا لما قام به من جمع أحاديث النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، العديد من المحن التى كانت سببا فى طرده من مدينته ومسقط رأسه وتكفيره.
وكانت أغلب المحن التى تعرض لها البخارى وغيره من الفقهاء فكرية فى الأساس إلا أن أشد محنة على الإطلاق، هى محنة إجبار العلماء على القول بخلق القرآن، والتى اتهم بعضهم بالتكفير وآخرون سجنوه وماتوا من بطش المتعصبين، وآخرين أخرجوا من ديارهم بسبب هذا التعصب، ومن هؤلاء العلماء:
الإمام مالك
من بين الرجال الذين ارتبطوا بسيرة الإمام مالك، كان محمد النفس الزكية، وهو محمد بن عبدالله بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب، وأمه هند بنت أبى عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب، المكنى بأبى عبد الله، والملقب بالأرقط والنفس الزكية وسماه أهل بيته بالمهدى، ودعى له بالخلافة وأقبل إلى المدينة فأخذها، ثم إلى مكة فأخذت له، ولد ونشأ بالمدينة عام 93هـ، وقتل على أبوابهافى خلافة أبى جعفر المنصور على يد عيسى بن موسى العباسى عام 145هـ.
ويقال إن الثورة عندما اندلعت فى المدينة، اعتزل الإمام مالك فى منزله وجاء الناس لاستفتائه فى الخروج لتأييد محمد "النفس الزكية" فى البيعة التى فى أعناقهم لأبى جعفر المنصور، فلم يتردد الإمام مالك أن يجهر بكلمته، فقال لهم: "إنما بايعتُم مُكرَهين، وليس على مُكرَهٍ يمين"، ويذكر البعض أن الإمام تعرض للجلد والضرب ضربا مبرحا لموقفه من ثورة محمد "النفس الزكية" بعد فشلها بوفاة الأخير.
أحمد بن حنبل
وفقا لكتاب "الفتح المبين فى طبقات الأصوليين" تأليف عبد الله مصطفى المراغي، بدأت محنة الإمام أحمد فيما عرف بمحنة خلق القرآن التى بدأت فى عهد الخليفة العباسى المأمون حيث ظهرت بعض الفرق الإسلامية التى تأثرت بالفلسفات الأخرى، ومن ضمن أفكارهم أن القرآن مخلوق وليس كلام الله عز وجل وبذلك فهو كلام قابل للتأويل، حسب مقتضيات العقل، فحسب اقتناعهم أن القرآن يحوى نصوصاً متنوعة وأحياناً متعارضة، لذا فهم يرون ضرورة اللجوء إلى النظر العقلى لتفسير ما ورد فى القرآن، وأقنعوا الخليفة المأمون بهذه الأفكار وعملوا على نشرها بهيبة الدولة وسلطانها، وبالفعل اقتنع المأمون بهذا الرأى وطالب بنشره بل عزل أى قاض لا يؤمن به وامتحان العلماء فى ذلك، فمن قال إن القرآن مخلوق نجا بنفسه وأصبح من المقربين ومن أنكر ذلك عذب وأهين ولاقى الأهوال وعزل من وظائفه، وكان من هؤلاء أحمد بن حنبل.
وعاش "بن حنبل" تحت وطأة التعذيب والسجن، وأمر المعتصم بحبس ابن حنبل فى سجن ضيق مظلم والقيود فى يديه، بل أن أحد مناظريه وهو أحمد بن داود لأن يفتى المعتصم بأن ابن حنبل ضال وكافر ومبتدع ويجب قتله، وفى النهاية أفرج الخليفة عن بن حنبل خوفا على من الموت تحت التعذيب.
أبو حنيفة
وقد تعرض أبو حنيفة إلى هجمات عدة فى حياته، حيث كان موقف أبى حنيفة من خروج محمد النفس الزكية على المنصور شديداً، فقد كان يجهر بمناصرته فى درسه، بل وصل الأمر إلى أن ثبط بعض قواد المنصور عن الخروج لحربه، وكان يميل إلى أبناء على بن أبى طالب، وكان ذلك يبدو على لسانه فى حلقة درسه وبين تلاميذه.
حاول العباسيين استمالة بمنصب القضاء لكنه رفض دائما، وعندما دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة ليتولى القضاء امتنع،، الأمر الذى عرضه إلى غضب الخلفاء فطلب منه أن يرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم ليفتيهم فامتنع، فأنزل به العذاب بالضرب والحبس والسجن أكثر من مرة، وكانت وجهة نظره أن الإمام لا يجب أن يصير قاضيا، وقد مات الإمام أبو حنيفة فى السجن نتيجة رفضه تولى القضاء.
البخارى
ألقت محنة خلق القرآن هى الأخرى بظلالها على الإمام البخارى، فلما حضر الناس مجلس البخارى، قام إليه رجل قال: يا أبا عبد الله، ما تقول فى اللفظ بالقرآن مخلوق أم هو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخارى ولم يجبه، فقال الرجل: يا أبا عبدالله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه، ثم قال فى الثالثة، فالتفت إليه البخارى، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة، فشغب الرجل، وشغب الناس، واعترضوا عليه، وقالوا له بعد ذلك: أرجع عن هذا القول، حتى نعود إليك، فقال: لا، لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتى". فشغب الناس وتفرقوا، وظل البخارى فى بيته.
لكن الناس لم يكن يعجبها كلام البخارى، وظل فى رأيهم أنه خارج عن الدين، ووجب طرده من المدينة، وهو ما دفع الإمام البخارى للخروج من نيسابور إلى بلده الأصلية "بخارى" من دون أن يودعه إلا شخص واحد، وقد ظل ثلاثة أيام خارج أسوار المدينة يرتب أغراضه التى خرج بها على عجل، استعدادا للرجوع إلى بلده الأم.
النسائى
عاش الإمام الراحل فى مصر وقت الدولة الطولونية، وعندما استشعر الإمام النسائى خطورة تفشّى ظاهر التعصب الدينى بعد زوال دولة بن طولون، أقدم على الرحيل إلى الشام، العام 914 ميلادى الموافق 302 هجرياً، وألّف هناك كتاب "الخصائص للإمام على بن أبى طالب"، وكان قد ظهر هناك رذيلة التهجم على الصحابى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، انتصاراً لمنافسه التقليدى معاوية، فتجمع له الغوغاء فى المسجد الأموي، وسألوه لماذا لم يكتب فى فضائل معاوية؟، فأجابهم قائلاً: "ألا يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس مع على حتى يفضل؟ فاستنكر الجمهور هذا الرد، فألحوا عليه، فأجابهم فى شجاعة: "لا أجد له إلا قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلم؛ "لا أشبع الله بطنه"، هنا ثار الغوغاء على الإمام النسائي، وظلوا يدفعونه فى حضنيه، كما قال الدارقطني، أو فى خصيتيه، كما قال ابن خلقان، تُرك الإمام النسائى وهو الشيخ الكبير للغوغاء يضربونه ويهينونه، غير آبهين لفضله أو حتى سنّه بعد أن بلغ 85 عاماً.
قرر الرجل الذى أهين بسبب أنصار معاوية ترك دمشق والسفر إلى فلسطين، إلا أنه مات فى الرملة بفلسطين، متأثراً بضربات المتعصبين له فى المسجد الأموى بدمشق.