عرف القائد المسلم خالد بن الوليد بولعه بالحروب، ومشاركته فى جميع حروب الفتح فى الشام، وقاد العديد من الغزوات أمام الإمبراطوريات الرومانية والفارسية، ولم يستطع أحد الانتصار عليه، ولكثرة الحروب التى خاضها سيف الله المسلول، جعل البعض يتصيد لخالد ويصفه بأوصاف الشر والسوء، وكأنه كان يحب الدماء.
مؤخرا.. شن صحفى سعودى يدعى عبد الله وافيه هجوماً على شخصية الصحابى خالد بن الوليد، ووصفه لزمن الصحابة بزمن "القتل والدم"، إذ قال وافيه: "هناك أحداث مرعبة لا تتوافق مع زمن يذهب نحو الوعى والتنوير ونسيان تاريخ من الدماء والقتل" وأثارت هذه التصريحات الكثير من الجدل.
الأديب الكبير عباس العقاد فى كتابه "عبقرية خالد" حاول تحليل شخصية القائد المسلم، وبحث مفاتيح شخصيته العظيمة، وتتعمق فى رؤيته فى الحروب، وهل كان يحمل ضغائن الشر، أم أن فطرة الجندى تغلبت عليه.
يقول العقاد: إنّ هذا الولع كله بالحرب لم يكن ولعا بالشر والسوء، ولا ولعا بالضغينة والبغضاء، فكانت عداوته كلها عداوات جندى مقاتل، ولم تكن عداوات مضطغن آثم، ولم يعرف قط عنه أنه حمل الضغينة لأحد من الناس، ولو أنه اضطغن على أحد لكان أحق الناس أن يضطغن عليه عمر بن الخطاب؛ لأنه عزله وشطر ماله وأبقاه فى العزلة سنوات، ولكنه لم يعمل عملًا واحدًا ولم يقل كلمة واحدة تدل على ضغن عليه. وقد سامحه والتمس له المعذرة وعلم أنه قد أراد وجه الله بما حاسبه عليه، وكان أشد ما قاله فيه: «الحمد لله الذى قضى على أبى بكر بالموت وكان أحب إلى من عمر، والحمد لله الذى ولَّى عمر وكان أبغض إلى من أبى بكر ثم ألزمنى حبه»، وربما ذكره وهو غاضب فسماه «الأعيسر بن أم شملة» فكانت هذه الكلمة أدل على التحبب منها على الكراهة، ولاحت كأنها كلمة المغلوب فى لعبة لا فى غرض عظيم يقعد ويقيم.
وعلى كثرة من قتل خالد فى حروبه لم يكن يقتل أحدًا قط وهو يشك فى صواب قتله وإن أخطأ وجه الصواب، فالقتلى الذين طاحت بهم سيوف الجلادين بأمره فى «نهر الدم» كانوا يستحقون عنده القتل قربانًا إلى الله وجزاء لهم على عناد الشرك والإصرار.
أما إذا شك فى صوابه فهو يستكثر المساءة إلى رجل واحد فضلًا عن الجحافل والقبائل، ويسبق إلى الرفق رجلًا كأبى عبيدة عرف طوال حياته بالرفق والرحمة والأناة. فيقول له وقد تناول رجلًا بشيء: «إنى لم أرد أن أغضبك، ولكنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنَّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة أشد الناس عذابًا للناس فى الدنيا".
فهو مطبوع على عداء الجندى المقاتل وليس بالمطبوع على عداء الدسيسة والشر فى صغائر العيش وسفاسف الأمور.
كذلك لا يفهم من ولعه بالحرب على هذه الصفة أنه كان مبتلى بذلك الولع الأهوج الذى يبتلى به من لا يعقلون هجومًا إلا كهجوم الريح أو فرارًا إلا كفرار الحيوان، فقد كان يقدم عن علم بمواضع الإقدام؛ ولذلك لم ينهزم قط وهو مسئول عن الهزيمة، وإنما هزم فى حنين مرة واحدة وهو مسئول عن اليوم كله كما قدمناه.
أما إذا وجب التراجع، فالشجاعة كل الشجاعة عنده أن يؤمن بهذه الحقيقة وأن يدبر أمر التراجع بعد ذلك على النحو الذى يصون الكرامة ويصون الدماء، ويكون المخدوع المغلوب فيه هو الذى أمكن التراجع من بين يديه، وقد كان فى وسعه أن يبطش بالمتراجعين جميعًا قبل أن يفلتوا من أوهاقه المطبقة عليهم.