نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) قراءة تراثه المهم الذى كان له كبير الأثر على مثقفى القرن العشرين وحتى الآن، واليوم نتوقف مع كتابه المهم "المهاتما غاندي.. روح عظيم".
يقول الكتاب إن عقيدة غاندى هى أهم شيء فى بنيان شخصيته، وصلاة غاندى هى أهم شيء فى بنيان عقيدته، فنحن لهذا نقترب من فهمه كلما اقتربنا من فهم صلاته؛ لأن الصلاة عنده لا تنبعث عن طلب أو استغاثة أو ابتهال، ولكنها تنبعث إلى حس فوق الحس، وفوق التفكير، وفوق الطلب والابتهال.
وهى عنده، كما هى عند الجينيين عامة، أعلى مراتب الوعى الذى يتاح للكائن الموجود، فالروح الإلهى فى اعتقادهم سارٍ فى جميع هذه الموجودات، مبثوث فى جميع الأجسام والأجساد، ولا يزال الإنسان محصورًا فى أوهاق الجسد أو فى أوهاق المادة على العموم، ما دام معتمدًا على الحواس، أو على العواطف أو على التفكير فى إدراك ما حوله، ولكنه يرتقى إلى مرتبة من الوعى أعلى من مراتب التفكير، عندما يدرك الروح خالصًا منزهًا من هذه الأوهاق.
فهو لا يصل بالحس إلى شيء أرفع من المادة أو المحسوسات المادية، وقد يرتقى بالتفكير إلى شيء أرفع مما يدركه الحس، ولكنه لا يتجاوز به حدود المحسوسات، وهناك مرتبة من التفكير أعلى من مرتبة "التعقل المنطقى" وهى مرتبة "التأمل" والانقطاع بالوجدان عن كل ما يحيط بالإنسان.
ففى هذه المرتبة يستطيع الإنسان أن يسيطر على جسده ويسيطر على الطبيعة، ويرتقى إلى الحالة التى يقهر بها المادة ويصنع الخوارق، ويخالف العادات، وهى تسمى عندهم حالة "السديهى" Siddhis أو الصديقية إذا كان للفظ صلة باللغات السامية. ولكن هذه الحالة لا تزال دون حالة الخلاص المطلق بكثير، وهى التى يسمونها كيڨاليا Kaivalya أو التجلى الأعظم، بل ربما خيف على صانع الخوارق أن يفسد كل ما صنع إذا أعجبته قدرته على تسخير الطبيعة فاغترَّ بها واسترسل فيها؛ لأنه لا يزال محصورًا فى "أنانيته" الباطلة، كلما أعجبته السيطرة وأحب المزيد منها، وإنما ينفعه صنع الخوارق لسبب واحد، وهو تثبيت يقينه بالسير على الهدى فى طريق الخلاص، وأنه قد بلغ إلى مرتبة ينتقل منها إلى المرتبة التى تليها، وهى غاية الغايات التى تسمو إليها قداسة الإنسان.
ومتى ترقَّى القديس إلى مرتبة الخلاص فهنالك يلتقى بالروح الإلهى خالصًا مجردًا من علاقات كل مادة وكل محسوس، ويلمح الحقيقة المجردة التى تضل عنها الحواس والعقول، وينتقل إلى سماء من السعادة المطلقة لا توصف، ولا تقبل الوصف بالكلمات ولا بالأفكار؛ لأن الكلام مقيد بالفكر، والفكر لا ينطلق من جميع القيود، ويطيب للقديس أن يستعيد هذه اللحظات كلما استطاع، وهو لا يستطيعها فى كل حين.
وقد كان غاندى يصلى ليستعيد هذه السعادة، ولا ينتظر شيئًا غيرها من الصلاة، ولم يعنه قط أن يصنع الخوارق أو يسيطر على قوانين الطبيعة؛ لأن الخوارق لا تقصد لذاتها، ولا تراد إلا على سبيل البرهان، ولا حاجة بالمتثبت إلى برهان.
وكان يود لو ينقطع للصلاة مدى حياته، ولكنه كان يعلم أن لقاء الروح الإلهى مدى الحياة أمر يفوق الطاقة الإنسانية، فكان يتزود منها بغاية ما يطيق، ويؤثر هذا الزاد على كل زاد فيه غذاء للجسد، أو غذاء للعقل، أو غذاء للروح.