نعرف جميعا قصة الفيل ونؤمن بها لأنها وردت في القرآن الكريم، لكن ماذا عن كواليس رحلة أبرهة إلى الكعبة، هذا الجانب تحدثت فيه كتب التفاسير والتاريخ الإسلامية.
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير تحت عنوان "سبب قصد أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة"
"أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل: 1-5] .
قيل: أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان، الذى قتل الضحاك، قاله: الطبرى، وهو أول من اتخذ للخيل السرج.
وأما أول من سخر الخيل وركبها: فطهمورث، وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا.
ويقال: إن أول من ركبها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب، والله تعالى أعلم.
ويقال: إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر، وقد احتال بعض أمراء الحروب فى قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى، فنفرت الفيلة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، كنيسة لم ير مثلها فى زمانها بشىء من الأرض، وكتب إلى النجاشي: إنى قد بنيت لك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فذكر السهيلى أن أبرهة استذل أهل اليمن فى بناء هذه الكنيسة، وسخرهم فيها أنواعا من السخر، وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة، وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما، وأحجارا، وأمتعة عظيمة، وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة، وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس، وجعل ارتفاعها عظيما جدا، واتساعها باهرا.
فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة، كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها وأمتعتها، أصابته الجن بسوء، وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين: كعيب وامرأته، وكان طول كل منهما ستون ذراعا، فتركها أهل اليمن على حالها.
فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بنى العباس، فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم، فنقضوها حجرا حجرا، ودرست آثارها إلى يومنا هذا.
قال ابن إسحاق: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة من كنانة، الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم، كما قررنا ذلك عند قوله: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ" الآية [التوبة: 37] .
قال ابن إسحاق: فخرج الكنانى حتى أتى القليس فقعد فيها، أى أحدث حيث لا يراه أحد، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذا؟
فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذى تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا. فغضب فجاء فقعد فيها، أي: أنه ليس لذلك بأهل.
فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريده من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نقر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر، فأتى به أسيرا. فلما أراد قتله قال له ذو نفر: يا أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائى معك خيرا لك من القتل. فتركه من القتل، وحبسه عنده فى وثاق.
وكان أبرهة رجلا حليما، ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي، فى قبيلتى خثعم، وهما شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به.
فلما همَّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلنى فأنى دليلك بأرض العرب، وهاتان يداى لك على قبيلتى خثعم - شهران وناهس - بالسمع والطاعة، فخلى سبيله.
وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف فى رجال ثقيف، فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك، مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذى تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذى بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.
قال ابن إسحاق: واللات بيت لهم بالطائف، كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة. قال: فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب فهو القبر الذى يرجم الناس بالمغمس.
وقد تقدم فى قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم، وكان يمتنع بالحرم، فلما خرج منه، أصابه حجر فقتله، وأن رسول الله ﷺ قال لأصحابه:
"وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب ".
فحفروا فوجدوهما.
قال: وهو أبو ثقيف.
قلت: والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق ؛ أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا، والله أعلم. وقد قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجمكم لقبر أبى رُغال
الظاهر أنه الثاني.
قال ابن إسحاق: فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكة. فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتى بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذ كبير قريش وسيدها - فهمَّت قريش وكنانة وهذيل، ومن كان بذلك الحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميرى إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إنى لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لى بدمائكم، فإن هو لم يرد حربى فائتنى به.
فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فانطلق معى إليه، فإنه قد أمرنى أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذى نفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو فى محبسه، فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟
فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدى ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا؟ ما عندى غناء فى شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه، وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، فقال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش فى رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتى بعير، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذى يطعم الناس بالسهل والوحوش فى رؤوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك فى حاجته و أحسن إليه. فأذن له أبرهة.
قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم، وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان.
فقال: حاجتى أن يرد على الملك مائتى بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتنى حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتنى، أتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمنى فيه؟
فقال له عبد المطلب: إنى أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله.
قال ابن إسحاق: ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدى بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بنى بكر، وخويلد بن وائلة سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليهم ذلك، فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز فى رؤوس الجبال، خوفا عليهم من معرة الجيش.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمنع * رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم * وقبلتنا فأمر ما بدا لك