نواصل اليوم قراءة "قصة فيل أبرهة" فقد كان الملك الحبشى الذى يحكم اليمن يريد أن يهدم بيت الله الحرام، وعندما وصل إلى هناك خرج أهل مكة إلى الجبال لأنهم يعرفون أنهم لا يستطيعون مواجهة أبرهة وجيشه، فكيف تناول التراث الإسلامى هذه القصة.
يقول كتاب "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير:
فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود (اسم الفيل) وارجع راشدا من حيث أتيت، فإنك فى بلد الله الحرام. وأرسل أُذنه فبرك الفيل.
قال السهيلى: أى سقط إلى الأرض، وليس من شأن الفيلة أن تبرك، وقد قيل: إن منها ما يبرك كالبعير، فالله أعلم.
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد فى الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فادخلوا محاجن لهم فى مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر فى منقاره، وحجران فى رجليه، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التى منها جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل فى ذلك:
ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت فلا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتنى وحمدت أمرى * ولم تاسى على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن على للحبشان دينا
قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة فى جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثنى يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدرى بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا ﷺ كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل: 1-5] .
ثم شرع ابن إسحاق، وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة والتى بعدها، وقد بسطنا القول فى ذلك فى كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، وله الحمد والمنة.
قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه. قال: وأما السجيل فأخبرنى يونس النحوي، وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب.
قال: وزعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وأنها سنج وجل، فالسنج الحجر، والجل الطين. يقول: الحجارة من هذين الجنسين الجر والطين. قال: والعصف ورق الزرع الذى لم يقصب.
وقال الكسائي: سمعت بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل أبيل.
وقال كثيرون من السلف: الأبابيل الفرق من الطير التى يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا.
وعن ابن عباس: كان لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وعن عكرمة: كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضرا.
وقال عبيد بن عمير: كانت سودا بحرية فى مناقيرها وأكفها الحجارة.
وعن ابن عباس: كانت أشكالها كعنقاء مغرب.
وعن ابن عباس: كان أصغر حجر منها كرأس الإنسان، ومنها ما هو كالإبل. وهكذا ذكره يونس بن بكير، عن ابن إسحاق. وقيل: كانت صغارا والله أعلم.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبى شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار: حجرين فى رجليه، وحجرا فى منقاره.
قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم. ثم صاحت وألقت ما فى رجليها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا.
وقد تقدم أن ابن إسحاق قال: وليس كلهم أصابته الحجارة - يعنى بل رجع منهم راجعون إلى اليمن - حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال، وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة، فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره، فمات لعنه الله.
وروى ابن إسحاق قال: حدثنى عبد الله بن أبى بكر، عن سمرة، عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان، وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا، فأما قائده فلم يسم، والله أعلم.
وذكر النقاش فى تفسيره: أن السيل احتمل جثثهم فألقاها فى البحر، قال السهيلي: وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذى القرنين.
قلت: وفى عامها ولد رسول الله ﷺ على المشهور، وقيل: كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الأشعار فى هذه الكائنة العظيمة التى نصر الله فيها بيته الحرام الذى يريد أن يشرفه ويعظمه، ويطهره، ويوقره ببعثة محمد ﷺ وما يشرع له من الدين القويم الذى أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه، وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة.
ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة، فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركى قريش، وإنما كان النصر للبيت الحرام وإرهاصا وتوطئه لبعثة محمد ﷺ.
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعرى السهمي:
تنكلوا عن بطن مكة إنها * كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالى حرمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى * فلسوف ينبى الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الأياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها
ومن ذلك قول أبى قيس بن الأسلت الأنصارى المدني:
ومن صنعه يوم فيل الحبوش * إذ كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا * إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه * وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصبا * فلفهم مثل لف القزم
تحض على الصبر أحبارهم * وقد ثأجوا كثؤاج الغنم