نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889-1964) قراءة مشروعه الفكرى خاصة ما يتعلق الشخصيات لذا نتوقف اليوم مع كتاب "عبقرية عمر" الذى يعد أشهر كتب العقاد.
يقول الكتاب تحت عنوان "عبقرى":
"لم أر عبقريًّا يفرى فريه"
كلمة قالها النبى، عليه السلام، فى عمر، رضى الله عنه، وهى كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خُلِق لسياسة الأمم وقيادة الرجال.
فمن علامات العظمة التى تحيى موات الأمم أن تختص بقدرتين لا تعهدان فى غيرها، أولاهما: أن تبتعث كوامن الحياة، ودوافع العمل فى الأمة بأسرها، وفى رجالها الصالحين لخدمتها، والأخرى: أن تنفذَ ببصيرتها إلى أعماق النفوس، فتعرف بالبديهة الصائبة والوحى الصادق فيم تكون عظمة العظيم، ولأى المواقف يصلح، وبأى الأعمال يضطلع، ومتى يحين أوانه، وتجب ندبته، ومتى ينبغى التريث فى أمره إلى حين.
كلتا القدرتين كان لهما الحظ الوافر فى سيرة عمرَ بن الخطاب.
فأين لولا الدعوة المحمدية التى بعثت كوامن العظمة فى أمة العرب كنا نسمع بابنِ الخطاب؟ وأى موضع له كان من مواضع هذا التاريخ العالمى الذى يزخر بكبار الأسماء؟
إنه الآن اسم يقترن بدولة الإسلام ودولة الفرس ودولة الروم، وكل دولة لها نصيب فى التاريخ، فأين كنا نسمع باسم عمرَ لولا البعثة المحمدية؟!
لقد كان، ولا ريب، خليقًا أن يستوى على مكان الزعامة بين بنى عدى، آله الأقربين، أو بين قريش، قبيلته الكبرى، ثم ينتهى شأنه هناك، كما انتهى شأن زعماء آخرين، لم نسمع لهم بخبر، لأنهم عظموا أو لم يعظموا، يعطون البيئة كفاء ما تطلب من جهد ودراية، وهى تطلب منهم ما يذكرون به فى بيئتهم، ولكنها لا تطلب منهم ما يذكرون به فى أقطار العالم البعيد.
وقد كان عمرُ قوى النفس، بالغًا فى القوة النفسية، ولكنه على قوَّته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع فى الجاه والسلطان بغير دافع يحفزه إليه وهو كاره، لأنه كان مفطورًا على العدل، وإعطاء الحقوق، والتزام الحرمات ما التزمها الناس من حوله، وكان من الجائز أن يهيجه خطر على قبيلته، أو على الحجاز ومحارمه المقدسة فى الجاهلية؛ فينبرى لدفعه، ويبلى فى ذلك بلاء يتسامع به العرب فى جيله وبعد جيله، ولكنه لا يعدو ذلك النطاق، ولا هو يبالى أن يمعن فى بلائه حتى يعدوه.
بل كان من الجائز غير هذا وعلى نقيضه.
كان من الجائز أن تفسدَ تلك القوة بمعاقرة الخمر والانصراف إليها، فإنه كان فى الجاهلية، كما قال "صاحبَ خمرٍ يشربها ويحبها" وهى موبقة، لا تؤمَن حتى على الأقوياء إذا أدمنوها، ولم يجدوا من زواجر الدين أو الحوادث ما يصرفهم عنها، ويكفهم عن الإفراط فى معاطاتها.
فعمرُ بن الخطاب الذى عرفه تاريخ العالم وليد الدعوة المحمدية دون سواها، بها عُرِف، وبغيرها لم يكن ليعرف فى غير الحجاز أو الجزيرة العربية.
أما القدرة الأخرى التى يمتاز بها العظيم الذى خُلق لتوجيه العظماء، فقد أبان عنها النبى، عليه السلام، فى كل علاقة بينه وبين عُمرَ من اللحظة الأولى؛ أى من اللحظة التى سأل الله فيها أن يعز به الإسلام، إلى اللحظة التى ندب فيها أبا بكر للصلاة بالناس وهو، عليه السلام، فى مرض الوفاة.
سبر غوره، واستكنه عظمته، وعرفه فى أصلح مواقفه؛ فعرف الموقف الذى يتقدم فيه على غيره، والموقف الذى هو أولى بتقديم غيره عليه.
وليست هى مفاضلة بين رجلين ولا موازنة بين قدرتين، ولكنها مسألة التوفيق بين الرجل والموضع الذى ينبغى أن يوضع فيه، والمهمة التى ينبغى أن يُندَب لها، والوقت الذى يحين فيه أوانه.
وربما رأينا فى زماننا هذا رئيسًا يوصى لنصيرٍ من أنصاره بالوزارة، ويوصى لغيره بقيادة الجيش، فلا نقول إنه يفاضل بين النصيرين، أو إنه يرجِّح أحدهما على الآخر فى ميزان الكفاءة، وإنما يختار كلًّا منهما لموضعه فى الوقت الذى يحتاج إليه، ولا غضاضة على أحدٍ منهما فى هذا الاختيار.
فالنبى، عليه السلام، كان يعلم من هو أبو بكر ومن هو عمر، وقد عادل بينهما أَجَلَّ معادلة حين قال: «إنَّ الله عز وجل ليليِّن قلوب رجال فيه حتى تكون أَلْين من اللبن، وإنَّ الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، ومثلك كمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ".