نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889- 1964) قراءة مشروعه الفكرى الذى كان له تأثير كبير على الثقافة فى القرن العشرين، ولا يزال يواصل ذلك التأثير خاصة كتبه المسماة بـ العبقريات، واليوم نتوقف مع "عبقرية الإمام على".
يقول الكتاب تحت عنوان " صفاته":
المشهور عن على، كرم الله وجهه، أنه كان أول هاشمى من أبوين هاشميين، فاجتمعت له خلاصة الصفات التى اشتهرت بها هذه الأسرة الكريمة، وتقاربت سماتها وملامحها فى كثير من أعلامها المقدمين، وهى فى جملتها: النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، عدا المأثور فى سماتها الجسدية التى تلاقت أو تقاربت فى عدة من أولئك الأعلام.
فهو ابن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
وقيل: إن اسمه الذى اختارته له أمه: حيدرة باسم أبيها أسد، والحيدرة هو الأسد، ثم غيَّره أبوه فسمَّاه عليًّا وبه عرف واشتهر بعد ذلك.
وكان على أصغر أبناء أبويه، وأكبر منه جعفر وعقيل وطالب، وبين كل منهم وأخيه عشر سنين.
قيل: إن عقيلًا كان أحب هؤلاء الإخوة إلى أبيه، فلما أصاب القحط قريشًا وأهاب رسول الله، عليه السلام، بعميه حمزة والعباس أن يحملوا ثقل أبى طالب فى تلك الأزمة جاءوه، وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لى عقيلًا وخذوا من شئتم، فأخذ العباس طالبًا، وأخذ حمزة جعفر، وأخذ النبى، عليه السلام، عليًّا كما هو مشهور، فعوضه إيثار النبى بالحب عن إيثار أبيه، ولكنه عرف هذا الإيثار فى طفولته الأولى، فكان سابقة باقية الأثر فى نفسه على ما يبدو من أطوار حياته التالية، وجاءت لهذه السابقة لواحقها الكثيرة على توقع واستعداد، فتعود أن يفوته الحق والتفضيل وهو يدرج فى صباه.
وربما صح من أوصاف "على" فى طفولته أنه كان طفلًا مبكر النماء سابقًا لأنداده فى الفهم والقدرة، لأنه أدرك فى السادسة أو السابعة من عمره شيئًا من الدعوة النبوية التى يَدِقُّ فهمها، والتنبه لها على من كان فى مثل هذه السن المبكرة، فكانت له مزايا التبكير فى النماء كما كانت له أعباؤه ومتاعبه التى تلازم أكثر المبكرين، ولا سيما المولودين منهم فى شيخوخة الآباء.
ونشأ، رضى الله عنه، رجلًا مكين البنيان فى الشباب والكهولة، حافظًا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين.
قال واصفوه وهو فى تمام الرجولة: إنه كان، رضى الله عنه، ربعة أميل إلى القصر، آدم، أى: أسمر، شديد الأدمة، أصلع مبيض الرأس واللحية طويلها، ثقيل العينين فى دعج وسعة، حسن الوجه، واضح البشاشة، أغيد كأنما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين لهما مشاش كمشاش السبع الضارى لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجًا، وكان أبجر، أى: كبير البطن، يميل إلى السمنة فى غير إفراط، ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها، ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها، شثن الكفين، يتكفأ فى مشيته على نحوٍ يقارب مشية النبى، ويقدم فى الحرب فيقدم مهرولًا لا يلوى على شىء.
وتدل أخباره، كما تدل صفاته، على قوة جسدية بالغة فى المكانة والصلابة على العوارض والآفات، فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل، ويمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس، واشتهر عنه أنه لم يصارع أحدًا إلا صرعه، ولم يبارز أحدًا إلا قتله، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه إلا رجال، ويحمل الباب الكبير يعيى بقلبه الأشداء، ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان.
ومن مكانة تركيبه، رضى الله عنه، أنه كان لا يبالى الحر والبرد، ولا يحفل الطوارئ الجوية فى صيفٍ ولا شتاء، فكان يلبس ثياب الصيف فى الشتاء وثياب الشتاء فى الصيف، وسئل فى ذلك فقال: "إن رسول الله ﷺ بعث إلى وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله، إنى أرمد العين، فقال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فما وجدت حرًّا ولا بردًا منذ يومئذ".