نواصل مع الدكتور طه حسين (1889- 1973) قراءة مشروعه الفكرى الذى كان له دور بارز فى القرن العشرين على مستوى الثقافة فى الوطن العربى، ونتوقف اليوم مع كتابه المهم "تجديد ذكرى أبى العلاء".
يقول الدكتور طه حسين فى الكتاب:
ليس الغرض فى هذا الكتاب أن نَصِفَ حياة أبى العلاء وحده، وإنَّما نُريد أن ندرُسَ حياة النَّفس الإسلامية فى عصره، فلم يكن لحكيم المعرة أن ينفرِدَ بإظهار آثاره المادية أو المعنوية، وإنَّما الرَّجل وما له من آثار وأطوار نتيجة لازمة وثمرة ناضجة لطائفةٍ من العلل، اشتركت فى تأليف مزاجه وتصوير نفسه، من غير أن يكون له عليها سيطرةٌ أو سلطانٌ.
من هذه العلل: المادى والمعنوي، ومنها ما ليس للإنسان به صلةٌ، وما بينه وبين الإنسان اتصالٌ؛ فاعتدال الجوِّ وصفاؤه، ورقة الماء وعذوبته، وخصب الأرض وجمال الرُّبى، ونقاء الشمس وبهاؤه، كل هذه علل مادية تشترك مع غيرها فى تكوين الرجل وتنشئ نفسه، بل وفى إلهامه ما يعن له من الخواطر والآراء، وكذلك ظلم الحكومة وجورها، وجهل الأمة وجمودها، وشدة الآداب الموروثة وخشونتها، كل هذه أو نقائضها تعمل فى تكوين الإنسان عمل تلك العلل السابقة، والخطأ كل الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرنا إلى الشيء المستقل عمَّا قبله وما بعده: ذلك الذى لا يتصل بشيءٍ مما حوله، ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به، ذلك خطأ؛ لأنَّ الكائن المستقل هذا الاستقلال لا عهد له بهذا العالم، إنَّما يأتلف هذا العالم من أشياء يتصل بعضها ببعض، ويؤثر بعضها فى بعض. ومن هنا لم يكن بين أحكام العقل أصدق من القضية القائلة: بأنَّ المُصادفة محال، وأن ليس فى هذا العالم شيءٌ إلا وهو نتيجةٌ من جهة، وعلَّةٌ من جهة أخرى: نتيجة لعلَّةٍ سبقته، ومُقدِّمة لأثرٍ يتلوه. ولولا ذلك لما اتصلت أجزاء العالم، ولما كان بين قديمها وحديثها سبب، وَلَمَا شملتها أحكامٌ عامة، وَلَمَا كان بينها من التشابه والتقارب قليلٌ ولا كثير، وليس للمؤرخ المُجِيد عملٌ إلا البحث عن هذه العلل، والكشف عمَّا بينها من صلة أو نسبة، فعمله فى الحقيقة وصفى لا وضعي؛ أى إنَّه يدل على شيء قد كان، من غير أن يخترع شيئًا لم يكن، مثله مثل السائح، يعثر فى طريقه بالنَّهر لا يعرفه أصحاب تقويم البلدان، فيدلهم عليه ويهديهم إليه، قد يُسمَّى النَّهر باسمه، وقد يُجلُّه أصحاب هذا العلم، وقد ترفعه أمته إلى حيث يلقى كبار الرجال، ولكنَّه مع ذلك مُستكشف، لم يُوجد النَّهر، بل اهتدى إليه، كذلك شأن المُشتغلين بالعلوم النَّظرية والتَّجريبية، لهم فضيلة الاستكشاف، فأمَّا فضيلة الإيجاد فليس إليهم منها شيء، فلم يكن من الرياضيين من أوجد المثلث، ولا من اخترع نسبةً بين عددين؛ ولم يكن من أصحاب الطبيعة والكيمياء من اخترع قانون الثقل، أو ابتدع عنصرًا من العناصر، إنَّما حقائق العلم فى أنفسها قديمة ثابتة واجبة، فأمَّا الحادث العارض، فعلم الإنسان بها واهتداؤه إليها، سواءٌ فى ذلك حقائق اللغة والأدب، وأصول الفلسفة والحكمة.
إذا صحَّ هذا كله، فأبو العلاء ثمرةٌ من ثمرات عصره، قد عمل فى إنضاجها الزمان والمكان، والحال السياسيَّة والاجتماعيَّة، بل والحال الاقتصادية، ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدِّين؛ فإنَّه أظهر أثرًا من أن نُشير إليه، ولو أنَّ الدليل المنطقى لم ينتهِ بنا إلى هذه النتيجة لكانت حال أبى العلاء نفسه منتهيةً بنا إليها؛ فإنَّ الرجل لم يترك طائفةً من الطوائف فى عصره إلا أعطاها وأخذ منها، كما سترى فى هذا الكتاب، فقد هاج اليهود والنَّصارى، وناظر البوذيين والمجوس، واعترض على المسلمين، وجادل الفلاسفةً والمتكلمين، وذمَّ الصُّوفية، ونعى على الباطنية، وقدح فى الأمراء والملوك، وشنَّع على الفقهاء وأصحاب النُّسك، ولم يُعفِ التُّجار والصناع من العذل واللوم، ولم يُخلِ الأعراب وأهل البادية من التفنيد والتثريب؛ وهو فى كل ذلك يرضى قليلًا ويسخط كثيرًا، ويظهر من الملل والضيق، ومن السأم وحرج الصدر، ما يُمثِّل الحياة العامة فى أيامه، بشعةً شديدة الإظلام.
فالمؤرخ الذى لا يؤمن بالمذاهب الحديثة، ولا يصطنع فى البحث طرائقه الطريفة، ولا يرضى أن يعترف بما بين أجزاء العالم من الاتصال المحتوم، ولا أن يُسلم بأنَّ الشيء الواحد على صغره وضآلته، إنَّما هو الصورة لما أوجده من العلل، ولا يطمئن إلى أنَّ الحركة التَّاريخية جبريةٌ ليس للاختيار فيها مكان، المؤرخ القديم الذى يرفض هذا كله ولا يميل إليه، ملزمٌ مع ذلك أنْ يبحث عن حياة الأمة الإسلامية، إذا بحث عن حياة أبى العلاء؛ فإنَّه إنْ لم يفعل ذلك، استحال عليه أن يفهم الرجل، أو يهتدى من أمره إلى شيء.
نقول الأمَّة الإسلامية، ومن قبل ذلك قُلنا: النَّفس الإسلامية. ولعلَّ من النَّاس من يصفنا بالإسراف فى هذا التعبير؛ فإنَّ أبا العلاء قد كان عربيًّا، وعاش عيشة عربية، وأظهر آثاره الأدبية كلها باللغة العربية، فإذا أراد باحث أن يستقصى أمره، كان خليقًا أن يبحث عن حال الأمة العربية فى عصره لا عن حال الأمة الإسلامية، وبين اللفظين فرقُ ما بين اللفظ الضيق المحصور واللفظ الواسع الحدود. كلَّا؛ ربما كانت الأمة العربية أشدَّ الأمم تأثيرًا فى تكوين المزاج النفسى لأبى العلاء؛ فإنَّ الرجل قد أنفق حياتَه فى درس الأدب العربي، والتعمق فيه، حتى استحال أو كاد يستحيل إلى كتلةٍ عربية خالصة، ولكن من الحق أنَّ الأمم الإسلامية الأخرى لها حظٌّ غير قليل فى تكوين الرجل ومزاجه، ولا سيما العلمى والفلسفي، فقد بينَّا وسنُبيِّن أنَّ الرجل لم يترك فرقة ولا طائفةً إلا عرض لها، ومن الظَّاهر أنَّ أكثر هذه الفرق لم يكن عربيًّا خالصًا، ورُبما لم يكن له من العربية حظٌّ إلا اللغة، فلا شكَّ فى أنَّ صلةً شديدة كانت بين أبى العلاء وبين الأمم الإسلاميَّة غير العربية.