مثلما كانت منطقة الشام قديما منبع لظهور ما يسمى بـ "الهرطقات" فى التاريخ المسيحى، شهدت خروج علم الكلام فى الإسلام، وهو ما وضع أصحابه فى مواجهة الحساب والعنف الدينى، بل وصل بأن قتل أصحابه بطرق شنيعة عقابا لهم لما تبنوا من أفكار وصفوها بالإصلاحية، وعلى مدار تاريخ الدعوة الإسلامية، ودول الخلافة، ظهر العديد من علماء الكلام، ورموز الإصلاح فى الدين الإسلامى، ورغم أنهم واجهوا الموت وقتلوا، إلا أنهم ظلوا متواجدين بأفكارهم وآرائهم المختلفة مع الأفكار السائدة، وأصبحوا رموزا ثائرة ومن هؤلاء المصلحين الذين قتلوا بسبب أفكارهم.
معبد الجهنى
كان معبد بن عبد الله بن عويمر الجهنى أول من تكلم بالقدر فى زمن الصحابة، ونشأت على رأيه فرقة القدرية، ورغم تصنيفه ضمن علماء وقته إلا أنه اتهم بالابتداع، ويقول الدكتور يوسف زيدان فى كتابه "اللاهوت العربى" إن معبد مات مصلوبا، بعدما أهين إهانات مريرة طفحت بها كتب المؤرخين الذين ترجموا له، وبعدما تجرع بصبر كأس التعذيب كاملة، حيث يقول الإمام الذهبى: كان الحجاج بن يوسف الثقفى يعذب معبدا بأصناف العذاب، ولا يجزع، ثم قتله، وقال سعيد بن عفير فى سنة 80 هجريا، صلب الخليفة عبد الملك بن مروان معبدا الجهنى بدمشق.
الجعد بن درهم
أصله من خراسان، أسلم أبوه وصار من موالى بني مروان، وقد ولد في خراسان وهاجر بعد ذلك إلى دمشق، حيث أقام هناك، كان أحد علماء الكلام، وهو معلم الجهم بن صفوان، اتهم بسبب أفكاره بتأثره بالآراء الفلسفية المسيحية التي كانت تثار حول طبيعة الإله.
ووفقا لكتاب "اللاهوت العربى" للدكتور يوسف زيدان، قتل الجهد قتلة أشد فظاعة من "معبد"، فقد قتله الأمير خالد بن عبدالله القسرى، فى جامع واسط بالعراق، ووقع هذا الأمر الشنيع صبيحة عيد الأضحى، فى الساعة المبكرة التى يذبح فيها المسلمون الخراف، بعد انتهائهم من صلاة أول أيام العيد، وخطبيته.
وكان الجهد حينها مسجونا فى سجن الأمير، فأخرجوه مقيدا بأغلاله فجر يوم العيد، وجاءوا إلى المسجد فأجلسوه أمام الناس، تحت المنبر، وفوق المنبر راح الأمير خالد القسرى، يلقى خطبة العيد، التى أنهاها بقوله للحاضرين "ارجعوا فضحوا، تقبل الله منكم، فإنى مضح بالجعد بن درهم، ونزل فاستل سكينا وذبح الجعد، تحت المنبر وسط المصلين، والناس ينظرون.
الجهم بن صفوان
الجهم بن صفوان الترمذى، من موالى بنى راسب، ويعود أصله إلى مدينة في ترمذ، وكان الجهم بارعاً فى علم الكلام فأخذ ينشر مذهبه فى "ترمذ" إلى أن ظهر فيها وصار له أتباع، بحسب الكتاب سالف الذكر، قتل "الجهم" على يد الأمير سلم بن أحوز بأصبهان، رغم أنه كان لديه عهد أمان من الأمير، ابن القاتل، ولما ذكر له الجهم ذلك رد عليه الأمير بقوله: "ما كان ينبغى أن يفعل، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب (دنانير) وأبرأك إلى عيسى بن مريم، ما نجوت، والله لو كنت فى بطنى، لشققت بطنى حتى أقتلك" وقتله.
غيلان الدمشقى
غَيْلان بن مسلم الدمشقى، فقيه عاش فى دمشق، أصله قبطى من مصر، كان أبوه قد أسلم وصار من موالى عثمان بن عفان، اشتهر غيلان بين جيرانه ومعاصريه بصلاحه وتقواه وورعه، و يعد من أعلام الوعاظ والخطباء والكتاب البلغاء.
لكن مذهب غيلان الكلامى هو أنه قرر ما سبقه إليه "معبد الجهنى" القائل بالحرية الإنسانية، فصار يخالف فى الوقت ذاته مبدأ أهل السنة والجماعة، وهو ما تسبب فى قتله على يد الخليفة هشام بن عبد الملك فى مجلس الخلافة.
وروى ابن عساكر فى تاريخه، ما ملخصه أن الخليفة الحانق على غيلان من قبلها بسنين، زعق فيه "مد يدك" فمدها غيلان، فضربها الخليفة بالسيف، فقطعها، ثم قال "مد رجلك" فقطعها الخليفة بالسيف الباتر، وبعد أيام مر رجل بغيلان، وهو موضوع أمام بيته بالحى الدمشقى الفقير، والذباب يقع بكثرة على يده (المقطوعة) فقال الرجل ساخرا: يا غيلان، هذا قضاء وقدر!، فقال له: كذبت، ما هذا قضاء ولا قدر، فلما سمع الخليفة بذلك، بعث إلى غيلان من حملوه من بيته، وصلبه على باب دمشق.
عبد الله بن المقفع
مؤلف الرائعة الأدبية الشهيرة والخالدة عبر العصور "كليلة ودمنة"، كان مجوسى الأصل، واعتنق الإسلام لكنه أيضا لم يسلم من اتهامات البدعة، وتكاد تجمع الروايات التاريخية على أن ابن المقفع مات مقتولاً على يد سفيان بن معاوية، بأنه أمر بِتَنُّور فأُسْجِر، ثم أمر بابن المقفع فقطع منه عضو ثم ألقى فى التنور وابن المقفع ينظر حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور!، وكان ذلك في عام حوالى عام 142هـ، لكن بعض المصادر روت أنه مات منتحرا، وذلك أنه حين ظفر به سفيان وأراد حمله إلى المنصور قتل ابن المقفع نفسَه، قال بعضهم إنه شرب سما، وقال آخرون إنه خنق نفسه، لكن رواية الحرق هي الأشهر على كل حال.
وذهب بعض المؤرخين وكتاب التراجم إلى أن ابن المقفع كان متهما بالزندقة، وكان ذلك من مسوغات قتله، ذكر ذلك عبد القادر البغداى فى خزانة الأدب، وابن خلكان فى وفيات الأعيان، وقال الرواة إنه كان منافقًا في إسلامه، لم يسلم إلا ابتغاء عرض الدنيا، وأنه كان يضمر المجوسية التي آمن بها زمنًا قبل اعتناقه الإسلام، وذكروا في ذلك شبهًا لا دليل عليها ولا يقام لها وزن في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام وقتله.