نواصل مع المفكر العربى الكبير الدكتور طه حسين (1889- 1973) قراءة مشروعه الفكرى صاحب التأثير الكبير على الثقافة العربية والمصرية فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "على هامش السيرة".
يقول الكتاب تحت عنوان "حفر زمزم":
كان عبد المطلب سمح الطبع رضى النفس، سخى اليد، حلو العشرة عذب الحديث، وكان عبد المطلب أيضا قوى الإيمان، تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهمًا ولا تفسيرًا. وأبوه من مكة، حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التى لا تحرُّج فيها ولا مشقة. وأمُّه من يثرب، حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاوز الوثنية فتضعفها، وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة، وحيث الظرف ونعومة الحياة.
ولد فى يثرب، ومات عنه أبوه فلم ينقله إلى مكة، فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم، حتى بلغ الشباب أو كاد، ثم أقبل عمه فانتزعه من إقليمه السهل الهين، إلى إقليم آخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض، ولا تبتسم له السماء إلا قليلًا، ويرحل أهله إلى الآفاق ويفد على أهله الناس من جميع الآفاق، فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة. ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت فى نفس هذا الغلام. ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر، ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شىء من الاعتدال آخر الأمر، فلم يكتمل للفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش؛ فيه ذكاؤهم وفطنتهم، وفيه إباؤهم وعزتهم، ولكن فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة فى الدين قلَّمَا كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشدَّ التمييز؛ فلم يكن يصدر فى حياته، كما كانوا يصدرون، عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه إلى العمل والاضطراب فى الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو فى الإباء، ولكنه يُضطر إلى أن يذعن لها ويأتمر أمرها. وكانت هذه القوة تُصدر إليه أمرها فى أشكال مختلفة: تدفعه إلى العمل حينًا وكأنها إرادته الخاصة، قد ملكت عليه حسه وشعوره، فهو لا يستطيع عنها انصرافًا، ولا يملك لها خلافًا. وتتمثل له حينًا آخر شخصًا واضح المخايل، بيِّنَ الصورة، يلمُّ به إذا اشتمله النوم، فيأمره أن يأتى كذا وكذا من الأمر. وتنتهى إليه مرة ثالثة صوتًا رفيقًا، ولكنه ملحٌّ يملأُ أذنيه يقظانَ، ويملأ أذنيه نائمًا، يحثه على أن يأتى كذا وكذا من الأمر. وكان فى هذا الصوت غموض، وكان فى هذا الصوت إبهام، وكان فى هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام. وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، ويلمُّ به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع فى أذن الفتى بألفاظ كالتى تقع فى آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظًا خاصة غريبة الجَرْس غريبة المعنى.
كانت إليه رِفادة الحاجِّ وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يُطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء فى أحواض من الأَدَم. وكان يجد فى جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهدًا وعسرًا. فبينا هو نائم ذات يوم أو ذات ليلة أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له سمةً ولا شكلًا، وقال له فى صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفُرْ طيبة.» قال: «وما طيبة؟» فانصرف الشخص، وانقطع الصوت. وأفاق الفتى وفى نفسه ذعر وعجب وأمل، وحاول أن يعود إلى النوم، لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت، أو يتبين هذا الحديث، ولكن كان النوم قد خاصم عينيه، وانصرف عنه مع هذا الشخص الغريب. ففكر وأطال التفكير، وقدر وأطال التقدير، وتقلب فى مضجعه فأكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه، فجلس يرقى ببصره الحائر إلى السماء، لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا. ويخفض بصره إلى الأرض لعله يجد فى إطراقه تفسير هذه الرؤيا. ويمد بصره نحو الكعبة، لعل صنمًا من هذه الأصنام المنصوبة يوحى إليه تعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة، وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد إلى الفتى بصره متعبًا مكدودًا. وتهوى نفسه إلى قرارة ضميره، لعلها تجد لهذا الرمز تأويلًا فلا تجد شيئًا؛ فيشتد بها الذعر، ويزداد فيها العجب. ويبقى الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.