نتوقف معا مع كتاب "مصر فى مطلع القرن التاسع عشر" 1801- 1811 لـ محمد فؤاد شكرى، ويناقش الكتاب ما شهدته مصر بعد خروج الحملة الفرنسة وما حدث من فوضى حتى تولى محمد على باشا حكم مصر وما جرى فى سنواته الأولى.
ويقول الكتاب:
اعتقد المماليك أن الأمور سوف تعود إلى حالها السابق بمجرد خروج الفرنسيين من مصر، وأن الفرص قد سنحت لاسترجاع السلطة التى فقدوها والتمتع بالنفوذ الفعلى والمطلق فى إدارة شئون البلاد واستعادة الامتيازات القديمة التى كانت لهم قبل الاحتلال الفرنسي.
وكان البكوات قد بدءوا مساعيهم من أجل الاستئثار من جديد بكل سلطة ونفوذ فى حكم البلاد من أيام اشتراكهم فى الحرب ضد جيش السير رالف أبركرومبى والجنرال هتشنسون (الذى تولَّى القيادة بعد وفاة أبركرومبى Abercromby فى موقعة كانوب فى 21 مارس سنة 1801، وجنب القوات العثمانية ضد الفرنسيين.
وغداة وفاة مراد بك فى أبريل سنة 1801، كتب عثمان بك البرديسى إلى السير سدنى سميث يبلغه هذا النبأ، فبعث بكتابه هذا السير سدنى سميث إلى الجنرال هتشنسون الذى بادر بإبلاغ البرديسى فى 5 مايو أن لديه تعليماتٍ قاطعةً من حكومته لكسبه إلى جانبه وعقد محالَفة معه، ووعد بأن يبذل قصارى جهده لمساعدته، وبدأت من ذلك الحين مساعى اللورد إلجين Elgin السفير البريطانى بالقسطنطينية من أجل إقناع الباب العالى بأن المماليك هم القوة التى فى وسعها الدفاع عن البلاد بعد خروج الفرنسيين منها، ويطلب من الريس أفندى (وزير الخارجية العثمانية) إعطاءهم الحكم فى الصعيد (بعد جرجا) مكافأةً لهم على ما أبدَوْه من همة ونشاط فى محاربة الفرنسيين، وتوسَّطَ فى الوقت نفسه الجنرال هتشنسون فى القاهرة مع الصدر الأعظم، ثم مع الريس أفندى فى القسطنطينية حتى يصفح الباب العالى عن البكوات ويُعيد إليهم أملاكهم والأقاليم التى كانت فى أيديهم.
ولكن رغبة المماليك فى استرجاع نفوذهم وسلطانهم السابق لم تلبث أن اصطدمت برغبة الباب العالي، صاحب السيادة الشرعية على البلاد، الذى كان مُصِرًّا بعِناد على إرجاع مصر — خُمس ممتلكات الدولة العثمانية — كمجرد مقاطعة عادية من مقاطعاتها، وصحَّ عزمه من هذا الوقت المبكر، وبالرغم من اشتراك البكوات فى الحرب الدائرة ضد الفرنسيين، على القضاء على كل نفوذ لهم وإقصائهم عن الحكم، بل وإبعادهم عن البلاد كذلك، حتى إن «هتشنسون» سرعان ما صار يشكو إلى الريس أفندى فى 17–23 يوليو سنة 1801 من مسلك الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا معهم، الذى لم يَكْتفِ بمنع البكوات من الإقامة بمنازلهم فى القاهرة، بل طردهم منها وطرد الست نفيسة المرادية أرملة مراد بك، وذلك بالرغم من تأكيدات الصدر الأعظم ووعودِه القاطعة بإرجاع كل أملاك البكوات إليهم.
ويبدو أن "هتشنسون" قد فطن إلى السبب الحقيقى الذى جعل الباب العالى لا يرضى عن استرجاع البكوات لنفوذهم وسيطرتهم السابقة، فكتب فى رسالته إلى الريس أفندى فى 23 يوليو: "إنه ينبغى للباب العالى أن يكون لديه من الجُند ما يكفى لاحتلال المراكز الهامة فى البلاد، ولن يبقى الباشا المرسل من القسطنطينية سجينًا". وقد تحدث إلى البكوات المماليك، وجعلهم يشعرون أن إنجلترا تهتم كثيرًا بشأنهم، ولكنها لا تستطيع أن تعترف بهم إلا كرعايا للسلطان، وأنه وعدهم ببذل كل جهوده لتخفيف غضب الحكومة العثمانية عليهم، وأن المماليك عليهم فى نظير ذلك أن يزيدوا "الخراج" المرسَل سنويًّا للباب العالي.
ونشطت بعد تسليم الجنرال منو بالإسكندرية فى أغسطس سنة 1801 مساعى الإنجليز فى القسطنطينية من أجل إنشاء حكومة منظمة فى مصر بعد جلاء الفرنسيين، وكان عندئذٍ طلَب الريس أفندى (شلبى مصطفى أفندي) فى أوائل شهر سبتمبر الاجتماع باللورد إلجين لاقتراح عقد مؤتمر يبحث فى الوضع المنتظر للحكومة التى يجرى إنشاؤها فى مصر، وأشار تلميحًا فى حديثه مع إلجين إلى أنه فى وسعه الالتجاء إلى روسيا وطلب نجدة جنود من الروس إذا نشأت حالات معينة متعلقة بالأنظمة الواجب اتخاذها مع المماليك، فهدَّد إلجين بقطع محادثاته مع الوزراء العثمانيين فى موضوع المؤتمر المقترَح عَقْده، إذا كان هناك أى احتمال لاستخدام جنود أجنبية، أو اللجوء إلى نفوذ أجنبى عند وقوع «حالة» غير منتظرة فى مصر، غير الجنود أو النفوذ الذى استُخدِم فى إعادة فتح هذه المقاطعة العثمانية، فعدل الباب العالى عن موقفه، وفى 14سبتمبر عقد المؤتمر فأوضح اللورد إلجين مدى ارتباطات الجنرال هتشنسون مع المماليك، وكان جواب الريس أفندى حاسمًا، ومنه يتبين إصرار الباب العالى على حرمان البكوات من كل نفوذ وسيطرة فى مصر، بل وإبعادهم عنها.